واختفى وسط الزحام

لم تشاركه يوما نجاحاته أو انتصاراته ، كان حبها له مجردا من روح المودة التي أنعم الله بها على الأزواج ، تأخذ منه ما يناسبها وتتجاهل ما تبقّى منه كما لو كان غير موجود في حياتها . تقف إلى جانبه حين تشعر أن وقوفها سيجلب لها فرصة انتظرتها طويلا لأمر مــا ، ثم تحوّل الأضواء نحوها لتطفئ حضوره ، تظهر ودّها لكل من حولها باستثنائه ، فقد اعتادت مشاركته أحزانها ، خساراتها ... أما انتصاراتها فقد استثنته منها ، عاش معها بضع سنوات يبرر لها كل أفعاله في سبيل أن يرضيها لتجعله الأول في حياتها ، لكن محاولاته لم تجد نفعا، فلطالما كان وجوده بحياتها كقطعة أثاث تحركها كيفما تشاء ومتى تشاء . أدرك متأخرًا أنها استغلته ، ولطالما قصّت منه أجزاءه المفضلة ، المقرّبة إلى قلبه.

عانى طويلا ، وصبر في سبيل تغيير أنماط حياتها ، طمعا في أن  تتأقلم معه في أسرة لها مكانتها وقيمها ، ولكنها هدرت أجمل سنوات شبابه معها ،  في حين أهداها أجملها وأرقاها ،  مستجيبا لنداءات الفطرة السليمة ، ولكنه أدرك مرة أخرى أن لاجدوى معها ، والعمر يمضي و لا يُهدى هكذا هدرا على هامش تصرفات غير مسؤولة  يتلقى عنفوانها برحابة صدر ، قرر أن يقابل حَكَمًا من أهلها أكثر من مرة ، ويتراجع  رغبة منه في شعور يدفعها إلى العمل بإنسانية على الأقل ، رغم مالدينا من توجيهات سامية في عقيدتنا وعاداتنا الحميدة ، ورغم قوة أثر  الوحي المقدس في هذا الشأن ، ورغم سلسلة طويلة من القصص بل والروايات التي تؤكد قدسية الحياة الأسرية ، تراءت له أطياف زوجة كان يتمناها ذات خُلُق  ، تدخل قلبه وتحتل أكبر مساحة مودة في أرجائه ، هو لم يقصر نحوها في أي من متطلبات الحياة التي يعيشها كل الناس ، ولكنه يشعر كأنها تريد أن تستخدمه لاأكثر . وبعض الناس يرى المرأة مجرد ضرورة اجتماعية ، ولا يهم كيف هي طباعها ومعاملتها ، ويأتي هنا السؤال الصعب أين المرأة ملهمة الرجل ، أين المرأة العظيمة التي تصنع الرجل العظيم ، وتدخل إلى أعماق أحنائه ، وتشاطره أقدار الحياة ، بل و تتحمل منها الكثير .

وجاءت أمسية خطط لها أن تكون جميلة وهادئة ، متناسيا كل المبادرات السيئة التي تقابله بها في أكثر الأمسيات ، ولكنه فوجئ ...  لا ...  بل وجد أبواب المودة مقفلة بشكل جيد ، فألزمته تربيته العالية الصمت ، وأيقن أن هذه الزوجة تخلت عن عاطفتي المودة والرحمة ، وأنها تعيش حالة اللامبالاة ، فليس لديها أي طموح مستقبلي يشير إلى شيء من السعادة ، وكأنها تريد هدم هذا العش الذي دخله منذ أمد ظانا بأنه موئل الأفراح ومرتع السعادة المنشودة . وهنا أفاق وكأنه كان في غيبوبة ، أو في رحلة شاقة تزخر بالبؤس والملل ،  وليس بمقدوره المقاومة لأسباب إنسانية ، واعتبارات أخوية تفرضها عليه المروءة . آهٍ ثم آهٍ أهي نهاية هذا المشوار ــ هكذا حذَّث نفسَه ــ بل تذكر قول الشاعر الجاهلي الذي خاطب محبوبته قائلا :  لو كنا جملين أجربين في صحراء مقفرة ، فلا يقربنا أحد ولا يرانا أحد ، ويتأوه مرة أخرى ، وأطرق قليلا ثم هبَّ وكأنه أُفلت من عقال ... هي ارتبكت هذه المرة ،  واضطرب حالهــا ، ولكنَّ كبرياءَها منعتها من ترجمة هذا الإحساس الذي انتابها في هذه الأمسية !!!

حملته قدماه إلى أبيها ، ذلك الرجل الفاضل ، المشهود له بحسن السيرة ، وصل البيت ، حيث استقبله والد زوجته ، بابتسامته الجميلة ، وبعبارات الترحيب الخاصة لزوج ابنته الذي يحبه ويحترمه قبل الزواج بابنته ، وأقبلت أم الزوجة التي تُكِنُّ له التقدير والاحترام ، سلمت عليه ،  ودارت أحاديث بعيدة عن السبب الذي جاء به في هذه الساعة .  صوت أذان العشاء يرتفع من المسجد المجاور للبيت ، قام الوالد فتوضأ ، وخرج مع زوج ابنته لأداء الصلاة  . أقيمت الصلاة وتقدم الإمام وراح يقرأ بعد الفاتحة الآيات حتى وصل إلى قوله تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) . أتم الصلاة وخرج الناس ، وخرج الوالد مع زوج ابنته واضعا يده بيده ،  وصلا باب الدار ،  شعر الوالد بعدم رغبة زوج ابنته بالدخول ، بل فاجأه قائلا : عمي الكريم  الآيات التي قرأها الإمام آنفا ما جئت اليوم إليكم إلا لأقول لك وأنا حزين بأني لم أجد المودة ولا الرحمة لدى زوجتي ، وراح يسرد له معاناته ومرارة الأيام التي قضاها معها ، وأنه لم يتكلم بهذا الأمر إلا بعد أن أغلقت ابنتكم كل أبواب المودة في وجهي . ولم يمنعني من أن أتصرف كباقي الناس إلا حبي لكم وتقديري لمكانتكم عندي . أطرق الوالد متأثرا وهو يعلم علم اليقين بصدق هذا الزوج ، وأكبر فيه مروءته وصبره ، حاول أن يدخله البيت ، ولكن الزوج المكلوم فضَّل الرحيل ، وربما لن يلتفت إلى الوراء ، ومشى خطوات اختفى بعدها وسط الزحام .

وسوم: العدد 893