رسالة إلى الغائب !

من كُوِّةِ الأمل التي يأتي إليها من أفق الأحزان بصيص نور ، أعزي نفسي وأنا أختك التي تركتها بين يّدّيْ أبوين كليمين ، ضاقت عليهما دنياهما التي كانت رحيبة بوجودك ، ببرك لنا جمبعا ، بأخلاقك التي ماكانت إلا قبسا من أخلاق أجدادك الكرام ، ويسعفني أمل الكُوَّةِ الضيِّقةِ لأخرج لحظات لأسأل عن أحوالك إذا كنت في عِداد ( ... ) وهنا أقول : لستُ أدري عن ماهية الوقت لديك ، فلا علم لي عن شمسك ولا قمرك ، ليلك ونهارك ، وربما أنه لا قيمة للوقت لديك ، وربما يختلف عالمك عن عالمنا نحن الذي نعيش واقعنا بأهواله وأثقاله . بداية أنقل إليك  اشتياق أفراد أسرتك الذين أحزنهم فراقك ، وأشجاهم بعدك الذي لايُرى أمده ،   رغم أنك لم تفارق  أمسياتهم الحزينة منذ أن رحلت ، فمثل تلك الساعات التي قضيتها معهم يصعب على سواك أن يشغلها ، فمكانك لاتزال أفنانه الحلوة واجفة ، وخطواتك في بهو دارِنا العامرة بالزوار والأحباب لايُسمع وقعها ، لا أشك في أنك متلهف لمعرفة حال من تركتهم بعدك ،  وبأي شيء أبدأ أيها الغائب ، عائلتك لا زالت تتجرع الآلام التي سببها رحيلك ، ولا شك أنك تدرك ما أصاب قلب أم حنون ، وأب مكلوم ، وإخوة وأخوات ودُّوا جميعا لو دفعوا الغالي في سبيل لقياك ، فأنت الغالي على أفئدتم ، ولكنهم ولله الحمد من المؤمنين الصابرين ، وفي ساعة ثقيلة على النفس قال الوالد مخاطبا أهل بيته : إن كان ماكان ( ... )  فنسأل الله أن يجمعنا به في بيت الحمد في الجنة ، سمعت كلامه الأسرة بكاملها ، فانهمرت الدموع من العيون ، وعلا بكاءُ أمك الحنون ، لقد كانت ساعة ثقيلة ، ولربما يد آثمة امتدت عليك ، وألقت علينا المصيبة بكل أثقالها . أجل يا أخي قالها الوالد الصَّابر المحتسب ، وهو الذي لايفتر لسانه عن ذكر الله ، فهو دائما يذكر الله ويحمده على السراء والضراء ، ويسترجع في كل حين : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فلقد غلبَ إيمانُهم بالله غُمم الأحزان التي ادلهمت ذات يوم ! لاتحلو لديهم الحياة خاليةً منك ! ولكن تدركهم رحمة الله ، وبالنهاية لاشيء يبقى على حاله . فقد اعتادوا وجودك ، واتكلوا على مالديك من حيوية وطاعة ، فكم من أمور أنجزتها. وأخرى رحلتَ قبل أن تنجزها , تركتها إِرثًا لمن بعدك . ومَنْ هو بعدك ربما لايؤديها كما تؤديها أنت ، هكذا يقول والداك ، وكأن غيرك عاجز عن حملِ إرثك ، وعاجز عن إنجازه ! غريبة هي حياتك ، أخلاقك ... خدماتك ... ابتسامتك ... أداؤك لفرائض دينك ، معاملتك مع الآخرين ، والأغرب كما قالت شقيقتك الأكبر مني  عن أمور لايعلمها إلا أهلك ، ولعلها تخص أناسا دون غيرهم في هذه الحياة ! وقالت تفاصيلها تلك التي ترهق غيره ،  فأي قدرة كنتَ تملك لتتحمّل ما كنت تعيشه .وأخذتها العبرة السخينة تتدفق من عينيها وهي تردد : فقدتْ الأشياء قيمتها فما عادتْ تهمّني ، وتغيّرت اهتماماتي بعد رحيل أخي الحبيب ، ازدادت عزلتي ، وقلّ حديثي وما عدتُ أبالي بما كان يهمني ، فقد ضاقت دائرة مشاعري ، واتسعت مساحات معاناتي .  تغيّرت مفاهيمي ،  كما لو أنها نضجت بعد كل ما لحق بها وأصابها من بعد رحيل الغائب الحاضر  .

ها أنذا أجلس في مكانه بعد صلاة العصر في أكثر أيامه  ، أعانق طفلي كما لو كان عناقي الأخير  ، وأقبّل يد أبي وأمي وأرجوهما أن يسامحاني فقد جلبت لهما حزني الذي لم تُطفأ نارُه المتأججة في صدري. وأدعو الله كثيرا أن يغفر لي  وأتصدّق قدر ما أستطيع لعلّ صَدَقَتِي تطفئُ نارَ خطاياي ... ثم أنتظر ! أيها الغائب لانملك إلا أن نناجيك من خلال رسائلنا الفياضة بالدموع والحنين ، والمعطرة بالشوق إلى لقياك في أي عالَم  كنت الآن .

    كان ضحى يومٍ مشرقٍ جميلٍ ، نعد فيه العدة للقاء عائلي بهيج في ظهيرة نفس هذا اليوم ، وكنا في أوج نشاطنا  ، واجتمع شمل الأسرة على طعام الغداء ولما يحضر فتى البيت ، اتصل به الوالد فوجد جواله مقفلا ، اتصل بأحد أصدقائه فلم يرد عليه ... يا لله لماذا لم يحضر حتى الآن ، فليس من عادته أن يتأخر ، وإن كان لابد من التأخير فإنه كان يهاتف الوالد أو أي أحد من أفراد الأسرة ، كان صوت الرصاص يخترق الأسماع ، وأصوات جلبة في الشارع تكاد تدخل بيتنا ، خرج الوالد يستطلع الخبر ، ولكنه رجع بوجه كئيب ، سألناه ما الخبر يا أبي ، قال : إن الأمر بيد الله ، ونحن ننتظر غائبنا ولعله يعود .

وسوم: العدد 897