قلبي دليلي

(1)

ارفعوا أيديكم يا أولاد .... ، وأنت خذي ابنك وبنتك للغرفة التالية حتى ننتهي من تفتيش بيت زوجك السافل ؛ أيها العملاء الخونة.... ثم وجهوا فوهات بنادقهم نحوهم، وقيدوا يدي الزوج .. وعلى درج العمارة كانوا يكيلون له أبشع أنواع المسبات واللكمات.....

      انتظرت ساعتين حتى نام طفلاها الصغيران بعد أن رأيا هذه المشاهد الوحشية لأبيهما ، وهو يُنكل به من قِبل عناصر أمن الدولة، ثم انسلت من تحت اللحاف؛ وكان الجو قارس البرودة، فلبست جلبابها، ثم انطلقت لتخبر أُصيحابه عن اقتياد عناصر الأمن له إلى السجن الذي لا يُعرف قراره.

      وفي الطريق اصطدمت حفصة بكثير من الحواجز الأمنية؛ فكانت تلفق لهم أكذوبة أن جارتها تتمخض، وأنها خرجت من بيتها بُعيد منصف الليل لتحضر لها القابلة؛ فهي في حال خطرة جداً!

(2)

      على الحدود السورية كان ضابط أمن الحدود يدقق في صحة جواز سفرها؛ فقد غيرت اسمها؛؛ لأنهم لو ضبطوا هذا التزوير فسيضعونها بجانب زوجها في سجن أبدي .... وهي تقرأ الآية التي قرأها الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم- حينما خرج من بيته مهاجرا إلى المدينة المنورة،، وطفقت تعيدها: (وجعلنا من بين أيديهم سداً، ومن خلفهم سداً؛ فأغشيناهم، فهم لا يبصرون).... وبالفعل أعمى الله بصرهم وبصيرتهم؛ فلم يكتشفوا التزوير؛؛ فقد كان المزور جد متقن..... وعندما وصلت بها سيارة الأجرة وسط مدينة عربية مجاورة: تنفست عائشة الصعداء؛ واغرورقت عيناها بجمانتين تتلألان كبياض صبح أبيض جميل، وشرِقت بدموعها وريقها معاً، وهي تردد: "اللهم إن حلب أحب البلدان لقلبي المتعب، ولولا أن الظالمين أخرجوني منها ما خرجت".

(4)

كان يوما شتويا مكفهراً، زعم الشتاء فيه أنه يبكي مطرا على أرواح وجبات الشهداء اليومية التي تُذبح في مسلخ سجن تدمر الصحراوي الذي أمسى يزكم الأنوف بروائح المسك التي تشع من جثامين القرابين اليومية.

أربع عشرة سنة، وكل صباح تطلب صحراء تدمر مزيدا من الأضاحي، وكان اسم زوج حفصة الحلبية –خلال فترة سجنه الأربع عشرة سنة- يُدرج مرات على قائمة القرابين؛ ولكن القدر يمنع حَيْنَه..... فكان ينال وجبته الساخنة اليومية من التعذيب والتنكيل ؛ بل الموت الزؤام اليومي؛ يتجرعه ، وهو يسيغه، وهو يطفق يردد : "أحد .... أحد"، فيغيظ ذلكم الزبانية؛ فيقول هامانهم: زيدوه مئة أخرى ثمن هذه الكلمة التي تقضُّ مضجعي.

،،، ومع الضربة التاسعة والخمسين، وكان زوج حفصة في (الدولاب) رأسه وجسمه ويداه محصورة داخل آلة التعذيب، وقدماه ظاهرتان لتقبلهما الكرابيح المنهالة عليه لثما..... جسَّ أبو الهول المعذب نبضه، فلم يجد شريانا يتدفق؛ فتحسس قلبه؛ فلم يجد حراكا؛ فزغرد، ثم هُرع لهامان السجن يزف إليه البشرى: لقد أتعبني آلاف الأيام بضربه، ولقد وفَّرت على خزينة الدولة ثمن عود مشنقته، فركله هامان على قفاه مقهقها: أيها العتُلُّ، لقد أسعدتني كثيراً، ولك مني إجازة أسبوع لكي تنام مع زوجك القح.....، ولكن قبل أن تغادر هذه الثكنة العسكرية مرَّ بي مساءا لكي نشرب نخبه معاً.

في اليوم التالي، جُرفت جثته مع الحصة اليومية من المقتولين.... وفي متاهات تدمر الصحراوية كانت تربض زنوبيا باكية على أرواح أحفادها الذين يُقتلون غيلة؛ دونما جرم قارفوه ، إلا أن يقولوا ربنا الله.... ولكن محمود صاحب الزوج عشر سنوات في غرفة السجن سمع هاتفا من السماء ينعاهم: "ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يُرزقون".

(5)

- قلتُ لكم مراراً وتكراراً: لم ، ولا ، ولن أتزوج

- ولكن الزواج الثاني بعد وفاة زوجك مشروع

- أعلم، ولكني أريد أن أتفرغ لتربية ابني وبنتي

- ومن سيكفلك بعد أن يتزوجا؟

- لن يتركاني

- ما أمارات ذلك؟

- أنا قلبي دليلي

(6)

      " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي- وقد بلغتُ من الكِبَر عتيَّا، وركبتني الأسقام- كما أشكوك قلة حيلتي؛ فقد عملتُ في التعليم خمسين عاما،، ولكني وقد بلغت الخامسة والسبعين... فقد أحالوني على التقاعد قسرا، وإني لأعلم أن كُنه كلمة متقاعد تعني: (مُتْ، وأنت قاعد)، وإليكَ أشكو هواني على ولديَّ، وقد هجراني بُعيد أن اشتعل الرأس شيباً... إلى من تَكِلُني؟ إلى قريب يتجهمني؟؟ أم إلى ظالمٍ قد أخرجني من أرضي وأهلي ومالي؟؟؟ إنْ لم يكُ بك غضب عليَّ فلا أبالي... لك العُتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك....

كانت تطفق ترددها كل سَحَر، وأمامها قد وضعت صورتيهما، وصور أولادهما!!

....لكنَّ قلبي دليلي؛ فإنْ حلَّتْ شَعُوبٌ يوماً فموعدي مع أبيهما على النَّهَر، وثَمَّ الحبيب المصطفى...........

وسوم: العدد 945