الأماكن الفارغة

نشوان عزيز عمانوئيل

اهداء.. 

إلى الربيع الذي انطفأ قبل أوانه..! 

كان ذلك في عشية إحدى الليالي..

في أواخر الخريف حين تشاجرنا أنا وصديقتي في ذلك اليوم 

صديقتي ألتي كان إسمها يشبهُ اللؤلؤ الفريد.. وهي ذاتها التي كانت تجيد أغنية حزني ، وتغنيها لي عندما كنت أنسى كلماتها..

لكن قبل ذلك اتذكر يومها حين رن هاتفي مساءً وصلتني رسالة لم أعلم قط إنها قد تكون الأخيرة..لكني عرفتُ بعدها إنها كانت آخر ومضة في شاشة هاتفي الجوال تَصلني منها. 

بعد ذلك اليوم لم أعد أنا قط كما أنا اليوم.. وادركت حينها بيقين أن الأماكن الشاغرة تبقى رغم الزمن فارغة لايملؤها أحد وبأن هناك دائماً شخص ما في حياة كل واحد منا.. شخص لانمتلك مفاتيح أو مغاليق حزنهِ وغيابه.. نفتش عنه هنا وهناك وقد ندري أو لاندري لماذا لانجِد ذلك الشخص..

 أجل، هذه الدّهشة لا تحدث في الحياة إلاّ مرّة واحدة فحسب 

 و للأسف تلك كانت فقط نصف الحقيقة. 

النصف الأخر كان يشبه الأمس مع أنه حدث منذ سبع سنوات من الحزن أو منذ زمن قد مضى. 

حدث ذلك كله في عمق الغابة على مسافة حلم ونصف من الجنون وفي يوم لايشبه كل الأيام.. يوم داكن ظل يخدش ذاكرتي كثقوب من وجع تأبى الزوال رغم تقادم الآسى والصمت. 

اتذكر جيداً حين رأيتها في ذلك المساء وهي تقف خلف الباب.. عذبة كالملكوت..فمها مثل جمانة بيضاء مشتعلة كأنما صُنِع من جمرات من نور

 عيناها المسحوبتان كالأفق الأبيض تمتد صوب اللانهاية... 

وجهها الطفولي يتوقد ببهاء وحزن.. أحيانا هو كالجحيم أو كفردوس هارب.. 

ذلك الهاجس الساكن فينا بطريقه أو بأخرى..جحيم من قداسة ونار.. جحيم نتوق إليه من حين إلى آخر.. جحيم أبيض من نوع مختلف. 

حين رأيتها في ذلك المساء الباكي كانت واقفه خلف الباب.. ترتدي الليل بكل سواده وغموضه وبكل ألوانه الزاهية..قوس قزح من السواد والنار.. والظلال.. أو قوس قزح من الأحزان 

من شعرها المُجعد والغجري كانت تتدلى كل الايام والذكريات والمتاهات والاوجاع والتناقضات ..تهمس في أذني همسات مشتعلة.. تقلعني من جذوري..ترفعني كصلاة.. شذرات أرق من نسيم الصباح..تهمس بأذني بكلمات من عوالم آخرى.. 

تلك كانت حكاية صديقتي ألتي حين كانت تفتح لي الباب كانت دائماً تجرني بقوة من يدي اليمنى إلى الداخل 

كمن يخاف على شيء سيضيع منه رغم أنني لاأعلم هل هي ضاعت مني.. أم أنا ضعتُ منها..! 

مرت نصف ساعة حين انطلقت إلى شقتها في جنوب ستوكهولم.. 

ما أن طرقتُ الباب حتى أنسلت بصمات صوتها بِرِقة وهدوء.. 

وكان الباب نصف مفتوح 

تفضل اُدخل :

 وبينما كنت أمشي صوب الباب وكعادتي في أحلام اليقظة استغرقت روحي في لحظة خرافية من اضغاث اوهامي..من كوابيس العدم..وبينما أنا أغرق في حالة زمنية وسطى مابين الجنون والعبث .. في كل خطوة مشيتها في الداخل كانت نظراتها تمزقُ كبريائي المهزوم وتغزو وحدتي.. طرقات اصابعها كالاهات بنكهة الليل صوت ينتشلني من الزمكان.. 

اكاد أشم رائحة قهوة سوداء تفوح في أرجاء المكان.. شممت روائح البخور وأيضاً رائحة ثيابها وخطواتها..كأنما كرائحة روح الغابة أو كرائحة مطر أيلول.. أو كأنما كرائحة بساتين الغروب أو طيف من الكواكب السحيقة والبعيدة .. أو كرائحة أزهار كثيره.. كان البخور المشتعل يبدو كأنه يتلو صلوات أخيرة في معبد للجان .. مثل لحن أو عُرس بعيد يزلزل علي وحدتي في هذا المساء الذي يدل على إنني مازلت وحيداً..

يالوحدتي وشقائي أنا البائس تحت ظل هذا الليل.. مازلت أتهاوى كثقب أسود في كبد المجرات.. وجسدي يتهاوى في ممرات شقتها الصغيره وأنا اخطو خطواتي الأولى إلى الداخل 

لمحتُ ذلكَ الشحوب الغامض الذي أعتَدتُهُ في وجهها الطفولي حين كانت مستلقية بضجر على الاريكة

 كشيطانة هاربة من فردوس غائب.. لهاث أنفاسها كان يعلو وبخبو كالوجع..

كان واضحا في نظراتها القلقة والمشتتة إنها كانت تبدو كطفلة ضاعت للتو وسط الزحام

نعم صديقتي كانت مثلي تعاني من مرض ثنائي القطب.. ذلك الجنون كان يقسمها نصفين 

حين أمسَكَت بيدي أحسستُ بأن اظافرها الفيروزية اللون تخربش خطوط يدي وتزيدها تعقيدا 

أحيانا نبحث عن شخص نعرفهُ بطريقه ما دون حتى أن نراهُ.. رغم أننا نفتش عنه في دهاليز الروح.. 

ثُـم فجأة نلّتقي بذلك الشَخص وياتي ذلك الشعور بأنه يعرفَـك ويفهمُـك جيّـداً وكَأنّـه كان طَوال السِنين في انتظارك ويحضّـر نفسَـهُ لذلك اليوم الذي يلتقيكَ فيه 

على أية حال كانت تلك آخر مرة أرى فيها صديقتي . 

في ذلك اليوم حين اتصَلَت بي .. قالت لي أن اساعدها في تركيب غسالة الصحون في المطبخ فهي كانت تعلم بموهبتي في الوصلات الكهربائية..

حين نظرتُ إليها في ذلك المساء كانت شبه مجنونه.. حائرة.. ضائعة

لااعرف.. لم تكن صديقتي ألتي عرفتها دائماً 

تحولت إلى فتاة أخرى 

إزدادت شراسةً وشقاء. 

وبينما كنتُ مُنهمكا في توصيل الأسلاك الكهربائية كانت تتبادر إلى رأسي أفكار من نوع آخر.. 

من نحن ياترى ؟

مامعنى أن نكون معا أنا وهي.. 

إلى متى كنا سنلعب دور الملائكة... ونحن لدينا أجساد تعيسة تسحقها الرغبات

تلك الرغبات المزروعة في خرائط جيناتنا الوراثية.. رُغما عَنا

 تَثور أحيانا كثيره مهما ادعينا القداسة ... 

لانستطيع أن نكون ملائكة دائماً.. أحيانا نكون شياطين حد النخاع.. بل ونتوق لكي نكون شياطين على هذه الأرض. 

أو لربما الأقدار هي التي ساقتنا لكي نكون أنصاف ملائكة.. وانصاف شياطين 

وبينما كانت الأفكار تتلاطم في رأسي أقبلت صديقتي ووقفت أمامي مباشرة! 

لم أكن أراها سوى طفلة صغيرة.. 

قالت بنبرة غريبة :

هل انتهيت؟.. 

قلتُ لها :

أجل.. توا انتهيت. 

قالت لي :

مارأيك في تناول شيء من البيتزا 

أراهن على انكَ لم تأكُل شيء منذ الصباح 

حسناً.. قلت لها 

وأنا في طريقي للخارج سمعت صوتها يتسلل من جدران المطبخ :

خذ معك المفاتيح.. إنها على الطاولة قرب الباب. 

كان صوت كلامها لاينتمي إلى هذا العالم.. 

خرجتُ وفي رأسي تساؤلات كثيرة.. 

 يالهذا هذا المساء.. لماذا لايشبه كل المساءات الأخرى..ومن كتب هذا السيناريو اللعين 

جلسنا في المطبخ..كانت اقراط الفيروز تتلألأ وتنعكس خلف شباك المطبخ المطل على نهاية الشارع وتتدلى من اذنيها كالثريا 

جلسنا سوية واكلنا كثيراً بعدها لااعرف كيف غلبني النعاس ففكرت أن آخذ قيلولة سريعة على تلك الاريكة الممتدة على جانب الصالة .. 

لم أشعر كم مضى من الوقت.. ربما دقائق.. أو ساعه حين نمت.. كنت متعبا يومها.. 

استيقظت على شذا عطرها..

كانت آخر مرة أشمُ فيها ذلك العطر بتلك القوة كان يفوح من بين مسامات اصابعها المرتجفة وهي تقترب مني ... 

أدعيتُ النوم وتظاهرت بالنوم.. مع أني كنت صاحيا.. كل حواسي كانت مفتوحة عدا عيناي اللتان اغمضتهما عمداً 

أقتربت مني إلى الحد الذي كنت أسمع فيه صوت أنفاسها....

كنتُ أقول في نفسي مُخاطبا إياها في سري .. أيتها الهمسة المسحورة.. ياابنة ازهار البنفسج..أيتها الجمانة النرجسية المشتعلة حبا..أيتها البسمة من أية دروب عبرت؟ هل سلكت وادي ظلال الموت والحياة؟ 

ماذا تريدين مني أنا البائس؟ 

اية نسمات حملتني خلف ابوابك ؟ ..ماذا قال لك آدم.. وبما أخبرتك حواء  حين سقطت من الفردوس.. 

انت ياخاتم الكمال.. يابنت زهرة الصبح..  

ما أعذب حضورك الذي يملأ قلبي بهاء.. ومااشهى نورك الذي يلسع شراييني بالأمل والخوف.. 

اقتربت مني إلى الحد الذي صار صوت عطرها صار قريبا جدا من عقلي وروحي 

وللمرة الأولى طَبَعت صديقتي بصمات قبلة خجولة على فمي.. برشاقة.. وخِفة... كأنها كانت تسرِق شيئاً مني...

بل كأنها سرقتني أنا من نفسي. 

ذُهِلتُ ذهولا وتجمد الدم في عروقي... أو ربما كان دمي يثور حبا 

وحواسي كلها تطير... كأنما سَرت في جسدي رعشة حب من مدن الشيطان.. 

كم أحببت تلك  اللحظة 

رغم ذهولي.. لااعرف كأنما أنا نفسي كُنتُ أنتظر ذلك من لحظة عودتي مع الطعام..

فَشِلتُ في التظاهر بالنوم أكثر من ذلك.. 

وأعتبرتُ تظاهري بالقداسة في حينه ضربا من ضروب التفاهه 

فتحتُ عيوني كُلها. ورأيتها بجمالها الاخاذ كُلهُ 

في تلك المرة لم تكُن طفلة.. بل كانت كطيف من أطياف الربيع الذي انطفأ قبل أوانه 

سحبتني بيدها الصغيره من قميصي 

كنت ارتدي يومها قميصا بأزرار ملونة 

حين شدتني تَقطعت أغلب أزرار القميص...صارت مثل قطع من قوس قزح تتراقص على أرضية الصالة الخشبيه .. عطرها كان موجعا حد الموت بِشذاهُ

فجأة ولااعرف كيف وبأي بؤس قلتُ لها 

كفى الآن.. توقفي. لاينبغي لنا نحن أن.. وقبل أن اكمل كلامي 

وضَعت أصبعين على فمي و دفعتني على الاريكة بقوة... 

كأنها كانت للحظة لبوة ثائرة متوحشة 

حتى أنا نفسي الذي كنت أدعي القداسة .. كانت هناك قوة تجذبني نحوها بجنون.. ذلك النصف الأسود في داخلي انتفض كطائر العنقاء من وسط الرماد 

وبدأت نبضات قلبي تشتد بجنون.. 

فجأة وببؤس لانظير له استيقظت بعد ثلاثة أيام على رنين هاتفي الجوال.. 

 تلقيت يومها أسوأ مكالمة هاتفية في حياتي كلها كي يصمت بعدها جوالي إلى الأبد 

الشرطه أتصلت بي لوجود رقمي كثيراً في هاتفها 

الو.. صديقتك وجِدت نائمة في الغابة المجاورة.. كنت منهارا حد الجنون 

ومنذ ذلك الحين وأنا لم أرها ثانية قط.. اجَل تلك كانت صديقتي ألتي اختارت أن تنام هناك إلى الأبد 

صديقتي هي هي التي كان إسمها يشبهُ اللؤلؤ الفريد..

وبعد ذلك لم يرني أحد قط.. لأنني لم أكن موجودا. 

وسوم: العدد 1008