دار قوم

يتمشى في الشارع دون وجهة روتينية، إلى اللحظة الأخيرة. مطمئن وواثق ومتمهل ولا يلتفت. الوجوه الجانبية التي يعبر عنها، ينبو عنها ملمح التعرف. إنه تقرير وإقرار في العيون التي يرتد طرفها ويمكث. ليست متجاهلة ولا متفحّصة ولا مسيئة ولا متوددة، بل منتبهة. كان يستطيع التمييز. وطالما كان هذا حالها، لا عدوان ولا استفزاز، لم يتضايق من انتباهها، فهذا شأنها.

لا يمكن لها أن تحيط به، مهما تحلقت حوله وراقبته. مسافة المتر البديهية الواضحة، يمكنها أن تكون أميالا من الدلالات في التفاصيل البديهية والجانبية والعشوائية والمرتجلة. أخيراً اختار الشارع المألوف، الذي يمرّ عمن يعرفهم ولا يكلّمهم، وهم يعرفونه ولا يكلّمونه.

يعرف أن الكاميرات المنتشرة يمكنها أن ترصد أقل تواصل، سيتبعه تاليا مراجعة. واحتياطا لا يحمل هاتفا لا يحتاج اليه ليس لوجود سرّ، إنما كيلا تُلتقط الاحداثيات الروتينية للمتواجدين في النطاق، الذين قد يتقابل معهم. كلهم تباعدوا وكلٌ مشغول بحياته. في محض مروره الرسالة، والوقت عصيب حيث الحريص يمكن أن ينسق ويبيع، والقريب يمكنه أن يشي معتقدا أنه العائلي الصائب، والصغير يربكه التشكيك فيجنح للمخاوف ويبحث عن الدور والامتياز وراحة البال.

لقد اخترقوا المجتمع.

التنظيمات نفسها لم تعد تثق بأنفسها، وأثر قليلها ما بين محض تصريح صحافي في العلن، وفعل نادر في السرّ الخلفي المحصور (غير المعروف حتى لكوادرها ومفاصلها).

لم يشرك أحداً في أمره، لأنه يعرف صعوبة الثقة: يحتاج اقتناعا مترسّخا وقدرة فردية على التفريق، وإلى ذلك حسن التصرف، إضافة لعدم ترك أثر. لم يعد ممكنا الاستناد إلى مجتمع يضيّق عليه بالحركة والقمع والرصد والوظيفة والمعيشة.

//

المركبة البيضاء نصف النقل المتبرع بها، الدورية، كانت تعترض الرصيف بوقوف جانبي. مرّ عنها ولم يلتفت. أفرادها مدججون يؤدون عملهم -اللا عمل- بآلية. سيأتي دورهم. وما لم يكن هناك شيء ظاهر، فليس في وسعها أن تراجعه. أحيانا كانت توقفه لتفتش أكياسه أو تسأله عن طريقه، خاصة إذا كان هنالك وفد أو شخصية مهمة في المنطقة، فيجيب إلى البيت أو العمل وما شابه.

إنه قانوني مئة بالمئة. ما من معارضة في تظاهر أو سلوك. لا يشارك. في الصدر قناعات وتوقعات وانتظار. أضعف الايمان في انتظار أكبره، حين لا تعود المخالب المحلية مؤذية. المظاهرات لم تعد سوى تجمعات لالتقاط الصور والعدسات المقرّبة والتظاهر بالوطنية، خاصة للصغار المتحمّسين والرؤوس الفاسدة أو الباحثة عن تزعم. الاحتجاجات الحقيقية، المطلبية أو السياسية، تُقمع بعنف وشدة. هؤلاء لهم حركات وشأنهم لهم، وليس في وسعه أن يشاركهم. في أفضل الأحوال عن بعد جانبي، وفي الخلف.

///

بعد الدورية، واجهه موقف سيّارات الأجرة. موبوء بالعيون والمناديب والمخبرين، في سوّاقيه والباعة على الجوانب. هؤلاء يلحظون أي تفصيل وينقلونه، حتى لو كان نوعية الفاكهة ومصدرها، أو فلانة لبست -أو خلعت- حجابها. بالطبع كل الركاب الدائمين حركاتهم مرصودة، والطارئ منهم الغريب يتتبعونه. وهم شائعة دائمة: محطة ومنبعا وتلقياً.

كانت الجامعة خلف الموقف تماما. إدارة وحرّاس وموظفون وبعض المحاضرين، يجمعهم الولاء الوظيفي والبيئة والراتب و(التعاون) ناهيك عن الأكاديميا "العالمية". الطلبة غير مكترثين وكل ما يريدونه هو العلامات العالية -كيفما اتفق- والشهادة. منهم نشطاء معارضون يتعرّضون للتضييق والملاحقة والاقصاء، لكن لهم مرجعياتهم. وهناك المموَل بسخاءٍ ومنافعَ، الملاحِق المنافِس، الذي يؤدي دور القبضة والعصابة وحرس القضية، بالتعاون مع أمن الجامعة والإدارة.

وما يحرسونه أو يقبضون عليه، يصل، من خلف التنظيم إلى الأجهزة، من ثم إلى.. التنظيم الرسمي هذا مؤسساته العلنية شاملة المجتمع لأنها فرضت نفسها، وفي الأقاليم والشتات والجاليات، وكلها ذراع اجتماعية -للرقابة والتشويه والتحجيم بالقمع، ناهيك عن تعاون جغرافي- للمخابرات، مختلف أنواعها..

التنظيمات الأخرى، الموالية، مخترقة بهذه النسبة أو تلك، ويستعان بها باسم المنظمة والوحدة الوطنية، وهي لا تتردد في المشاركة التي لا تأثير لها لأنها بحاجة للدور والصفة وتمويل المخصصات. انتهت فعليا وما بقي لها حجم، لكنها بيضة القبان، عند تعداد الأصوات الشكلية.

البواب الدوار مفتوح على اتساعه، لكل غريب قوي مسيطر..

ليس مع جماعة، ولا يوالي أحداً، ولا يسكت ايضاً، اذ يفصح في المنتديات المخصصة عما يريده وهو شديد الوقع، مما يضعه تحت عشرات الأضواء والتعتيم في آن، من مختلف الجهات، والرغبة في الانتقام، إنما بتهمة معروفة لدى الجميع. وحتى لو لم يقل شيئاً، طالما لا يأكل من زيتهم وعدسهم، ليس منهم، فلن يتركوه في حاله.

غير أنه مسالم وقانوني تماما. ولا يتكل إلا على الله لأنه رأى الكثير، وما عاد يهاب من شيء، إضافة إلى أنه يعرف قوانينهم.

ويعرف أيضاً أن صبرهم قد ينفذ في أي لحظة، لهذا فهو متنبّه.

//

فلما وصل وجهته، وكانت مبنى حديثا من طبقات، شعر بشيء في عقله ملحّ، يحرك الأفكار، إنما مطمئن الصدر، ذكّره بألفاظ دعاء قلّما يتلفظ به، ودفعه لأن يتلوه بصوت مسموع وهو يعالج الباب الرئيس للمبنى، ربما على من هو ذاهب اليهم :

  • السلام عليكم دار قوم مؤمنين!

وسمع أصوات خشب يقع على الأرض في الممر المظلم المؤدي للطابق الأرضي، فإذا هي، على ضياء الباب الموارب، هراوات. ورأى شبانا ثلاثة يتراجع أحدهم، بمحجرين ملؤهما الرعب، إلى الخلف، يسنده الآخران.

تقدم خطوات.

قال أحدهما، وتعرّف عليه (ابن التاجر في الحيّ)، كأن سلام المنازل والبيوت خاطبه هو بعينه، أو مسّه في عميق:

  • لا نعرف ماذا نفعل معك..

لم يجبه. غادره الكلام. الغربة ذاتها التي ابُتدئَ بها اُنتهيَ اليها، واليقين ذاته.

صعد إلى الطابق الثاني مبتغاه ودق الجرس. دون أن يكون واثقا تماما، أتاه صوت ابن التاجر يتناهى اليه من الأسفل، شريط من الضياء تجانبه عتمتان خفيفتان، خافتا:

  • وعد، لن نتعرض لك أبدا..

وسوم: العدد 1033