الذَّاتُ الأُنثويَّةُ إذ تَغْزِلُ الكَون! (يوميات من زمن كرونا 2020)

كُورُونا 2020

10

sgsfgf1032.png

السؤال الآن:

 ـ ماذا حصل خلال مئة سنة (1920- 2020)؟

فتحتْ صفحتَها على "الفيسبوك"، أعلنتْ على جدارها هناك، مساء الخميس 30-06-2020، عن لقاء افتراضي بغرفة صديقات أجمل العمر: لرَتْق الزَّرْبِيَّة. الزَّرْبِيَّة التي عمرها مئة سنة. كانت فرصة لتبادل الآراء والتَدَرُّب على الرَّتْق.  غَزْل زَرْبِيَّة في زمن كُورُونا هو استرجاع مئة سنة مرَّت. الدكتورة (لميس) تَرْتُق أول رقعة، وهي تكرِّر قولها:

-كُورُونا تحكي عن قِيَم كونية اخترعها أغنياء العالم ودَبَّروها، كما سبق أن اخترعوا الاشتراكية من قبل ودَبَّروها.

صديقات أجمل العمر يُرَتِّقْنَ زَرْبِيَّة (رُقَيَّة)، وكأنهن وسط غابات الأرز لا يسمعن زئير الأسد، الذي كانت تسمعه رُقَيَّة، وهي تنسج زَرْبِيَّة بأناملها المخضبة بالحناء. يعود هذا الزئير لزمن وطئت فيه قدم المحتل أرض الأجداد، ولمَّا تطأ أرض فلسطين بعد.

يكتشفن فجوات التاريخ، كما يكتشفن فجوات أجسادهن وأرواحهن، ويتحدثن عن القيم الكونية داخل رسومات باللون الأحمر، الذي يندرج تحته الأصفر، الفاقع بلون البرتقال والزعفران والسِّوَاك. الألوان يَرْكَبُ بعضها بعضًا في نَسَقٍ جميل، ولا جمال للألوان إن لم يَرْكَب بعضها بعضًا.

تقلِّب طَرَفي زَرْبِيَّةٍ نسجها هارٍ، لتكاشف آثار حضارة منسيَّة، مليئة بالتفاصيل الرمزيَّة، عن الوجود والعدم، الحياة والموت، الله والشيطان. تَرْتُق الفتقَ، وتدعو صويحباتها إلى ممارسة الرَّتْق. تتجلى لها جَدَّتها لوالدها (رُقَيَّة).. تراها تلمس شعرةً نبتت بشاربها، بفعل ارتفاع هرمون الذكورة. تمسِّد ذقنها، لينتصب ذَكَرٌ آخَر ، تمسِّد هامته بأناملها.. شعرة بيضاء، تُعلن ذكورتها، لا عِلم لها بارتفاع هرمون الذُّكورة.

كانت تنتعش بعِطْر الأَرز الشهي.. تنسج وتَترنَّح على نُدَف الثلج، وتُغازل رسومات زَرْبِيَّة (رُقَيَّة). هي من قواعد النساء، كما يحبِّذ الوصفَ أولئك الذين لا يعترفون للمرأة بالوقوف أبدًا. ناضجة الفراديس، في سنها الثالث الذهبي. تجاوزت الستين، فأصبحت تواجه الموت بشجاعة أُنثويَّة ضارية بالحياة، وكأنها تشارك في انتفاضة موسم النبي (موسى)، بالقدس، 8 مارس 1920، اليوم الذي صدر فيه الحكم الغيابي بالسجن عشرين عامًا على (أمين الحسيني)، مفتي الثورة الفلسطينية الوسيم.

 تحاول استنطاق زَرْبِيَّة نسجتْها جَدَّتها قبل مئة سنة من زمن كُورونا. تتخيل جَدَّتها تتحدث مع جارتها التي تَغْزِل لها الصوف. معجبة هي بجدَّتها التي أصبحت مستشارةً في قضايا الأُسرة، يُعْتَدُّ بِرأيها، وتطبَّق أوامرها، متخطيةً حواجز الذكورة والأُنوثة عن بَكرة أبيها. تُخبرها جارتها أنه يروج بين نساء قرية (إتْزَر) قصة زواج رجلٍ من النصارى، اسمه (هاينز) وهو أسير ألماني، من فتاة فرنسية. إذ تعلَّق قلبه بـ(مينوش) الفرنسية، وكانت تجمعهما بالطبع عقيدة استعماريَّة واحدة، مع بعض الاختلاف النِّسبي. لا عِلم لها بأن الأسير الألماني استقدمته فرنسا بعد انهزام النازية، حيث تَمَّ استغلاله من طرف الحيزبون في خبرة الاستعمار. اشتغل هاينز بوصفه تقنيَّ المُحَرِّك لإنتاج الكهرباء واستخراج الماء، وتعليم حِرْفَة تشغيل ذلك المُحَرِّك لثلاثة أشخاص من قرية إتْزَر، هم: (ناصر)، (الخَضير)، و (موحى) وآخرون. تعلَّم الفرنسية والأمازيغية، واقترن بمينوش بنت الفرنسي (فيربيي)، صاحب منشار الخشب، الذي يديره بطريقة عصرية! من سوق الأسبوع، الذي كان يقام يوم الاثنين، اشترى (فيربيي) زَرْبِيَّة من صنع (رُقَيَّة)، ليقدِّمها هديَّةً بمناسبة زواج ابنته (مينوش). رُزِق هاينز الألماني من الفرنسية بابن سماه (لينيت)، وبنت سماها (ميشيل). بعدئذٍ أصيب (فيربيي) بمرض خبيث، اضطره إلى العودة إلى فرنسا. عرضَ منشارَه للبيع. ولما علمت (رُقَيَّة) بالخبر نقلته إلى أبنيها: البِكر (عبد) والصغير (محمد)، وحفزتهما على شراء المنشار. كان هرمون الذكورة قد ارتفع في جسدها أكثر من ذي قبل، وانتصبت قضبانه أعلى فأعلى، فبات أفراد الأسرة ينفِّذون أوامرها، طائعين منصاعين لحكمتها.

 ظلَّت صاحبتنا تستنطق الزَّرْبِيَّة من خلال الفجوات التي ترتقها. إذ تناهى إليها صوت الدكتورة (لميس)، وهي تهمس بأُنوثةٍ حضاريَّةٍ فارهة:

- كُورُونَا تعبير رمزي عن السقف الذي وصلت إليه الأوضاع المتردية...

تَرْتُق زَرْبِيَّة جَدَّتها لتبتعد عن هلع كُورُونا بمئة رقعة جديدة ورقعة. تنشر على جدارها "الفيسبوكي"، كل يوم من زمن كورونا 2020، رقعةً جديدة، بأنامل صديقات أجمل العمر الجميلات، في انتظار معانقة مئة رقعة معطَّرة بأُنوثتهنَّ عند عودتها إلى أبي أنجالها بمونتريال، يوم أن تتجاوز محنة كورونا بسلام، وتُفتح خطوط الطيران، بين رباط القلب ومونتريال الهوى.

كانت صديقات أجمل العمر، في ذَهبٍ وسُندُسٍ وإِسْتَبْرَقٍ، مُتَّكِئِات على أرائك صالونهنَّ الجميل، المعطَّر بأنفاسهنَّ، المتطلعة نحو المستقبل، يسعين لِرَتْقٍ جديدٍ، يهُزُّ قبر جَدَّةٍ غير منسية، اسمها (رُقَيَّة)؛ لبعثها من مرقدها، وهي أرقى حياةً مما كانت عليه قبل مئة عام.  الغَزْل موغلٌ في دهاليز التاريخ، وغَزْلُ الأُنثى يعيد تكوين الكون عادةً. كُنَّ يتعلَّمن الصبر، وتُرَبِّي جميلتهنَّ الأخرى على تحدي هرمون الذكورة في جسدها.   تحاول أن تبتعد عن هذه التداعيات الميتا- زمانية. تنفض الزَّرْبِيَّة بحذرٍ شديد؛ كيلا تتمزَّق كلَّ ممزَّق، وقد أصبح نسجها هاريًا، لأنها قاومت هزَّات قوية منذ زمنٍ كانت فيه فلسطين حُرَّةً أَبِيَّة، كالمرأة الفلسطينية، قبل الزمن الذي أصبحت فيه فلسطين محتلَّة، بغزوين داخلي وخارجي.

  تستنطق زَرْبِيَّةً، تكاد تسمع بين خيوطها صوت (المُمزَّق العبدي):

فَــإِنْ كُنْـتُ مَـأْكُولًا فَكُـنْ خَيْـرَ آكِـلٍ          وإِلَّا فَــــأَدْرِكْنِي ولَـمَّــــا أُمَـــزَّقِ!

تصغي لجارة (رُقَيَّة) تغزل لها الصوف وهي تلغو:

-المرأة الناشز حكمَ عليها القاضي أن تسكن في الغابة ليأكلها الأسد. يأكلني بعلي خيرٌ من أن يأكلني الأسد! والمرأة يعدُّونها ناشزًا هنا إن أبدت رأيها، فالأسد من أمامها وبعلها من ورائها، وهي من كليهما مأكولة!

تسمع رُقَيَّة لغوها، فتقول لها:

- صاحب المنشار(فيربيي) . قبل أن يصاب بالمرض الخبيث، رفع شكاية إلى المقيم العام، يطلب فيها جلاء الأسود من الغابة، حتى يتسنى له هو وزوجته الصيد في أمان! اختفى صوت زئير الأسد الآن من الغابة. لا تتركي بعلك يأكلك، خيرٌ لكِ أن يأكلك ملك الغابة بكرامة.

 تنفض زَرْبِيَّة جَدَّتها (رُقَيَّة) أكثر من مئة مرة، لتزيل نجاسة قدمٍ محتلة دنَّست قداستها.  إنَّ المدنَّس هو الوجه الآخر للمقدَّس، مهما بدا بينهما الاختلاف. تشتغل على آليَّة: رَتِّق.. رَتِّق.. رَتِّق! تنفض زَرْبِيَّة (رُقَيَّة) من جديد، وقد تجسَّدت لها فيها قُوَّة إبداع امرأةٍ قادرةٍ على خَلقٍ حَـيٍّ، في أشكال هندسية بحسابات دقيقة، تدل على يقظتها وفطنتها. جَدَّتها ليست بفقيهة في علم الهندسة والحساب، ولا تملك اليراع الذي حاول أن يجنبها إيَّاه شاعرٌ أعمى ولد بِالمَعَرَّة:

فَحَـمْـلُ مَغـازِلِ النِّسوانِ أَوْلَـى         بِهِـنَّ مِـنَ الـيَـراعِ مُــقَــلَّمـاتِ

لكنها تملك فطرة الأُنثى الخلَّاقة.. تَخْلُق الحُبَّ والزرابيَّ المبثوثة، كفينوس وعشتار وعشتروت، رغم شاعر المَعَرَّة ومن لفَّ لفَّه من الذُّكوريين العُميان.

 أومضت على شاشة المحمول رسالةٌ أبعدتها عن الشاعر الأعمى وموقفه من اليراع والمرأة.. إنها واحدة من أحلى زميلاتها (صفيَّة)، التي تذكرها بالسبعينات من العقد المنصرم، وجامعة محمد الخامس، فرع ظهر المهراز، وأيَّام الأنوثة العابقة قبل أن يطفح الهرمون الذَّكري بين الصُّلب والترائب:

- إذا كان المخطوط يتطلَّب عنايةً دقيقةً عند تحقيقه من طرف اللغوي والمؤرخ، فإن زَرْبِيَّة (رُقَيَّة) تتطلَّب التدقيق أضعاف ذلك، عند رتق الفجوات ونسجها من جديد، لاكتشاف لحظة حلول الذات الأُنثوية وتناسخها. وتذكر الرسالة زمن اعتقال زميلتهما (سعاد الحارثي)، مع استحضار غرابة أحداث الرائدات من طالبات ظهر المهراز. أجل، إنَّ نضال الحركة النسويَّة في مجتمعٍ شَرقيٍّ هو كزَرْبِيَّة (رُقَيَّة)، تتطلَّب التدقيق أكثر عند رتق الفجوات!

تعبتْ من الرَّتْق والتذكُّر والاستحضار.. انبطحت فوق الزَّرْبِيَّة، بعد أن شعرت بشَغبٍ ضارٍ أصاب مخيلتها. تحرَّكت يمينًا وشِمالًا، بحركات رياضية.. استلقت على ظهرها.. وضعت ذراعيها إلى خاصرتَيها.. ثمَّ ضمَّت عظمَي الكتفين باتجاه منطقة الصدر... كرَّرت الحركات إحدى عشرة مَرَّة. استوت على عرشها.. جلست القرفصاء.. فتحت شاشة المحمول، رأت حروفًا حسبتها لؤلؤًا منثورًا، على شاكلة الزَّرْبِيَّة التي نسختها على جدار صفحتها بـ"الفيسبوك"، تبركًا بجَدَّتها (رُقَيَّة). تشكَّلت لها أرزة من خلال رُقَعٍ ذاتِ ألوان زاهية، تبعث الأمل: الفيروزي، الزمردي، يختفي الأحمر... الرُّقَع لم تطمس رسوماتها الجذَّابة، ولم تبهت رموز علاماتها الدالَّة. إنها تُفصِح عن رسائل جَدَّتها المتجدِّدة، التي لم تكن تملك ورقًا ولا قلمًا، لكنها تنسج زَرْبِيَّة، تختزل في ملمسها الأُنوثة والحريَّة والتحضُّر، وكأنها تلك الحُرَّة الفلسطينيَّة التي تشارك في انتفاضة موسم موسى 8 مارس 1920، قبل أن تعرف فلسطين عهد الحريم.

 تُمْعِنُ النظر في خَلْطَةِ الألوان والأشكال، تجد أنها هي الألوان نفسها التي اعتمدها (جُون دمسي)، المدير التنفيذي لمجموعة شركات (إِيستيه لودر)، عند تصميم داره في منطقة (مانهاتن). إنها سرقةٌ فنيَّة مقتبسة عن زَرْبِيَّة (رُقَيَّة). لم يعد يخامرها شَكٌّ في أن خَلْطَة ألوان (جون) جاءت اقتباسًا من الزَّرْبِيَّة التي نسجتها جَدَّتها (رُقَيَّة)، والتي اشتراها صاحب المنشار (فيربيي) من سوق الاثنين بقرية إِتْزَر، وقدَّمها هديةً بمناسبة زواج بنته (مينوش) بـ(هاينز). إنه استنساخ حضارة الشرق في الغرب بلا عزو ولا عزاء!

قال الراوي: هاجر (لينيت ) إلى أمريكا بعد أن نال المغرب استقلاله، وأقام بمدينة نيويورك. كان يحمل الزَّرْبِيَّة التي ورثها عن أُمِّه (مينوش)، وكانت له صداقة حميمية مع (جون)، الذي زاره في عُقر داره بمدينة نيويورك، وعند رؤية الزَّرْبِيَّة أعجبته رسوماتها، واندهش لجاذبيتها. ومن خلال الأشكال والألوان، استوحى تصميم داره بـمانهاتن، وأطلق على داره اسم (رُقَيَّة).

وقال العم (قوقل): يمكن التأكد من تلك السرقة الفنِّية بزيارة داره على صفحته بـ"الفيسبوك". أو من الأفضل الاشتغال على الواقع الافتراضي والدخول بإذن منه إلى داره، عن طريق الاستعانة بالميتافيرس Metaverse. ضع على عينيك نظارتك الذكيَّة، تَرَ زَرْبِيَّة (رُقَيَّة) عينها، تحمل رسم أَرْزَة، لتعرف أنها متفردة عن باقي زرابيِّ منطقة الأطلس المتوسط. ومن كراماتها الروحانيَّة رائحة الأرز العالقة بنسيجها. وربما زعم (قوقل) أنَّه بعد أن شاع خبر زَرْبِيَّة (رُقَيَّة)، ذات الأرزة المرسومة، وما أن علم الرئيس الأمريكي التاسع والثلاثين (جيمي كارتر) بقداسة الأرزة، حتى أمر بزرع شجرة أرزة الأطلس المتوسط في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض، وببناء منزلٍ على شكل أرزة، هديةً لابنته (إيمي)، وتمَّ تصميم هيكله الخشبي، ودعمه حتى لا يسبب ضررًا على الشجرة المقدَّسة.

هي الأخرى- أجمل جميلات صديقات أجمل العُمر- صمَّمت من خشب الأرز جَفْنَة، ألصقتها بسقف غرفة الضيوف بدار بنتها (آية) بهرهورة. حرصت على صباغة ألوانها من زَرْبِيَّة جَدَّتها لوالدها (رُقَيَّة)، المُلهِمَة الخالدة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) أديبة وروائية كنديَّة وأكاديمية من أصول مغربية.

وسوم: العدد 1032