في ليلة مقمرة

قصَّ عليَّ أخي هذه القصة ليؤكد لي أن الله قريب من عباده إذا سألوه ، وأنه سبحانه لايردُّ مَن أتاه تائبا راجيا منه العفو والتوفيق ، وكانت كلماته في هذه القصة تؤثر في النفس ، فقد رحلنا من ديارنا ومرابعنا التي عشنا فيها بنعمة وخير وأمان ، وقد ضاقت بنا رحاب الأرض الواسعة ، وتماهت جُملُ قصته مع جمل مشاعري وأنا أصغي إلى سرده الجميل . فقد أمضينا ليالي مع الأهل وبعض الأرحام الذين أصابهم ما أصابنا من قتل وأسر وهدم للديار وتشريد للكبار وللصغار ، والحمد لله على كل حال . كنت أظن أنني الوحيدة على وجه هذه الأرض ، وأنا وهذا الليل الطويل ، وهكذا كان أخي يبادلني الشعور الذي تُترجمه الجمل التي نتفوه بها ، ولكن ... لا ، ربما كان هذا الإطلاق مبالغا فيه ، ولكني أقول : أنا وليلي . لاختلاف الليالي على أحوال الناس ، فهناك الليالي المقمرات ، والليالي المظلمات ، وبين هذه وتلك ليال أخرى يحتفظ بأفراحها و أتراحها أصحابُها . أما أنا وليلي ففي عِراك ومنازلة ، أسرتني مواجعُه ، وآلمني امتداد مافيه من قلق مسهِد ، وهمٍّ طويل . وربما أذهلُ عن نفسي فلا أرى ماحولي ، ولا أسمع إلا صدى خطواته الثقيلة تجتاح مشاعري التي أعياها السفر الطويل في ظلامه الدامس . ولا أصحو من معاناتي إلا على أصوات صياح الديكة ، حين يتردد في أُذن فجرِ يومٍ وليد .

إنه ليلي ... ليلي الخاص الذي يعجُّ بالألم الممض ، وتتلظَّى نيرانُه بين أعماق صدري المثقل بالآهات ، وفكري المترع بالذكريات ... آهٍ ... إنه ليلي الطويل الذي لم يمر مرَّةً واحدة وهو مقمر جميل ، يستريح على مدارات قمره المشرق فؤادي من العناء .

وتمر الأيام عابسةً ، وتتوالى الأكدار مدلهمةً على صدري المكدود ، وذات ليلة وقد ضقتُ ذرعا بنفسي التي بين جنبيَّ ــ هكذا راح أخي يسرد لي شيئا من المعاناة ــ فقمتُ أتحسس في جنبات داري المتواضعة كُوَّةَ أمل رشيق أراه دائما في أحلامي ، وأرسمه منتجعًا حلوا أهرب إليه مما أنا فيه ،تابعت خطواتي سعيا حثيثا لتقودني إلى سطح الدار ، وانطلقت عيناي تجوب أعماق الليل ، كانت ليلة مقمرة ، هذا هو القمر أمام عينيَّ ، يدفع جيوش الظلام إلى الأفق البعيد ، وراحت عيناي تطوفان في الآفاق ، فوق النجوم ، وحول بعض الغيمات التي تداعبها أنوار القمر الوضيء ،نسيتُ نفسي ، توارت همومي ، اضمحل حزني ، مازالت خطواتي ثابتة في مساحة من سطح الدار ، وما زالت عيناي تتأملان امتداد هذا الكون البديع الذي خلقه الله سبحانه وتعالى ، وإذا بنداء الفجر يصدح : الله أكبر ... الله أكبر ... إنه صوت المؤذن لفجر هذا اليوم ، أشعر به هذه المرة وكأنه صوت بلال بن رباح رضي الله عنه ، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولأول مرة أصابتني قشعريرة ، وأشعر أن شيئا تغير في داخلي ، أردت أن أقول شيئا فلم أجد إلا كلمة واحدة أنطق بها : يا ألله ... وانهمرت عيناي بالدموع ، وانطلق لساني يردد مع المؤذن مايقول ، حيَّ على الصلاة ... حيَّ على الصلاة ، وفي هذه المرة سقتُ خطواتي إلى مكان الوضوء ، فتوضأتُ وأسرعتُ لأقف في مصلاي في بيتي لأداء فريضة فجر هذا اليوم ، ولأقف بين يَدَيْ ربي ولأول مرة أشعر بهذا الخشوع الغريب . وانهمرت دموعي من جديد ، وانطلق لساني يسأل ربَّي سبحانه وتعالى أن يبدل عسرَنا يسرا و أن ينصرنا على ليلنا المظلم ، ويبدلنا به ليلا مقمرا ، وأُنسا من لدنه عـزَّ وجلَّ يسعدُ به أرواحنا ، ويملأ آماقنا بدموع الفرح لابدموع الشدائد والرزايا الثقيلة . سلَّمتُ ذات اليمين ثم ذات الشمال ، واستغفرت ربي وسبحته وحمدته وكبرتُ آخر المطاف ،وقمت من مصلاي وأنا منشرحة الصدر ، هادئة البال ، مطمئنة القلب ، وقد علمتُ حينها أن الدنيا لايجدر بنا أن نحزن من أجلها أبدا . كان أخي قد عاد من المسجد المجاور للبيت ، وعلى وجهه ما على وجهي من علامات افترار القمر الذي مازال ينير جنبات الكون الفسيح ، كما أنار ــ بفضل الله ــ جنبات قلوبنا بالأُنس والطمأنينة العـــــامرة .

إضاءة :

 ( وهو الذي يُنَزِّلُ الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد ) .

وسوم: العدد 1037