أحلام مستباحة
بوجهٍ شاحبٍ مصفر، ويدان لا تقويان على حمل الصندوق، جلس يقلب أحد أضابير كتاباته القديمة بخُفَيّ حُنين. كان هذا الملف من أقدم ما تبقّى له من الأوراق والصور المثقوبة والمبعثرة داخل الصندوق.
سيلٌ من الذكريات والماضي التليد أخذ يمطر فوق رأسه، رأسٍ ما زال ممتلئًا بالأحلام والطموحات كأرضٍ عطشى تنتظر أول ندى.
بين يديه ورقة يعود تاريخها إلى ثلاثين سنة، كتب فيها قصة قصيرة بعنوان: أحلام مستباحة. عنوانٌ كأنما تنبّأ منذ زمن بعيد بما هو آت، أو لعله مرآة لروحه التي تبحث عن ذاتها في دهاليز الورق.
بدأ يعيد قراءة ما كتب وقتها.
يقرأ:
"الشجرة تظلّل روحه قبل جسده، رغم لهيب الشمس. مجرى النهر الذي أمامه يسير ببطء، كأنه يجر خلفه الأحلام والأمنيات المؤجّلة، تلك التي لم تجد ضفافًا تحتضنها.
أصوات العصافير تعزف سمفونية حالمة لذلك الحلم الساكن فيه، كأنها ترقص روحه فوق ضوءٍ خفي.
أوراقٌ خضراء صغيرة تتساقط، واحدة وقعت أمام عينيه، وأخرى حطّت فوق المجرى وسافرت بخياله معها.
وثالثة حاولت البقاء معلقة في الهواء، ثم سقطت بعيدًا بعد أن تأرجحت طويلًا مع الريح، حتى كأنها تلاشت خلف شجرة أخرى، كما تتلاشى الأمنيات في مهبّ الريح."
حدّث نفسه هامسًا:
"لا بد أن أدع الرياح وأمواج النهر الصغيرة تحرّك أحلامنا... لا بد أن نحولها إلى حقيقة، نوقظها عند أقرب فرصة، أو كلما طال الليل، موطنُ أحلامنا الدافئة."
سكت برهة، ثم سار بمحاذاة النهر يتمايل مع الريح كغصنٍ هشّ يشتهي الاتكاء على الأمل.
داخله صوت يهمس له:
"أحلامك الكبيرة تُمثّلنا معًا... أنت وأنا واحد، ننتمي لبعض."
غاص في غيبوبة قراءة أحلامه القديمة، تلك التي افترض أن زمن تحقيقها قد آن، أو أنه تأخر حد الذبول.
لم يفق من شروده إلا على صوتٍ يقترب منه، يناديه:
ـ أحمد... أحمد! أما زلتَ سارحًا؟ أراك كالمهووس! إلى أين تمضي بك الأحلام؟ حبك لها جعلك تعيش وهمًا، تحلم بمملكة!
ابتسم أحمد ابتسامة عريضة طمست ملامحه، ومدّ ذراعيه كمن يريد الطيران، ثم صاح:
ـ سوف تكون مملكتي! حبي لها عالمي المصغّر، لا بد أن نكون سعداء، نعيش كما نريد.
ثم التفت إلى صديقه مردفًا:
ـ أحلامُنا صغيرة، لكني أراها كبيرة... لا بد أن نعيش الحياة كما نراها نحن، لا كما يُفرض علينا.
ثم ابتعد حتى اختفى عن ناظريه، تاركًا خلفه صدى الكلمات يتردد في الهواء، كنداءٍ لم يُلَبَّ.
كان ذلك تذييل القصة قبل ثلاثين سنة.
عاد إلى ملفّه القديم، يقلب الأوراق الصفراء: قصصًا وقصائد كتبها أثناء وجوده في الدار أو أثناء أسفاره، كأنما ينقّب عن ذاته بين السطور.
فجأة سقطت ورقة لم يلحظها من قبل، فيها سطر واحد بخطّ يده:
"حين نكبر لا نحلم كثيرًا، بل نحاول أن نعيش ما تبقى من أحلام الطفولة."
قرأها مرارًا، وابتسم بمرارةٍ تشبه تنهيدة منسيّة.
حدّث نفسه:
ـ آه... تقدّم العمر، ربما أواخره محطة لاسترجاع الذكريات، أو رصيف نودّع عنده كل ما لم نحقّق.
حين وصل إلى الدار التقط القلم وكتب:
"أيّ عمرٍ يمضي
ولا زلت أعشق النعاس
نعاسٌ يجلبك حُلمًا
يُجلّل روحي
ويعصف بذاكرتي
يا أنتِ
قبل وهج الضياع كنتِ وهجي
قبل أن تنشطر روحي
كنتِ تتسلّقين داخل أعماقي
أغرقتني ضحكاتك
فبكيت
وما إن أزوي
كنتِ حديث وحشتي..."
صمت، ورمى جسده فوق السرير الخشبي. أخذ يحدّق في صورة قديمة معلّقة على الجدار يعلوها شريط قماش أخضر.
تذكّر ذلك اليوم حين قالت له أمه:
ـ علّق هذا الخيط هنا، لتعلّق به آمالك، فإنها تتحقّق بجاه هذا الوليّ الصالح.
كأنما كانت تدعوه ليؤمن بما لا يُرى... من أحلامه.
التفت إلى الجدار المقابل، حيث لوحة وثّق فيها معاناة إنسانية، نُقش أعلاها:
"تلك الأيام نداولها بين الناس."
كل ما يتذكر أنها لرسام، رغم شهرته، لكنه ما عاد يتذكر اسمه.
في هذه اللحظات، فكّر في كمّ الأيام التي تداولته هو نفسه.
ثم داهمه صوت أمه يهمس في أذنه:
ـ يا ولدي... لمَ هجرت الحياة؟ أما كنتَ أنت من علّق الأمل بخيطٍ أخضر؟
أحسّ بالتعب الشديد، والنعاس بدأ يطبق عليه بهدوء، كغطاءٍ حريري لا مفرّ منه.
أراد أن يوقف أجزاء جسده عن التفكير، عن التداعي، عن كلّ ما لم يُنجز...
لكنه لم يُقاوم.
غطّ في نومٍ عميق...
ربما كان الحلم القادم أكثر صدقًا من الحياة ذاتها.
وسوم: العدد 1129