هو الجنون

لطفي بن إبراهيم حتيرة

هو الجنون

لطفي بن إبراهيم حتيرة

[email protected]

تحت المطر وتحت قوس من حجر.. وقفت تراقب الطّريق وتمسح عن وجهها حبّات المطر.. وقفت تراقب السماء وتتابع رحلة السحاب.. السحب تمضي نحو البحر وتتجمّع فوق الساحل.. قطرات المطر ليّنة خفيفة تراها أمامها تمدّ يدها تحاول إلتقاط قطرة أو قطرات تبتسم حين تسقط في كفّها قطرة.." يا حبيبتي هذا القدر رماك في حضني وكان أولى أن تذهبي إلى الأرض لتسقي الشجر.. هذا القدر رماك في كفّي وكفّي هي القدر.. رماك ورماني في النّار وحرق قلبي.. القدر ساقك كما ساقني لحبّ عصف بي.. وقصف بكياني المتعب.. كان في طريقي وكان قدري أن ألتقي به ليته كان وليته لم يكن؟.. أربك وجودي وأغرق أيّامي وزاد قلقي.. يا حبيبتي قضاء هو الحبّ كالموت والميلاد وكإ حتراق الشّهب وتساقط المطر.. كان مجنونا بالفكرة لا ينتهي جنونه ولا يكفّ عن ملاحقتي.. عيناه تحتضنني تلفّني لكنّها تقلقني وتعبث بي.. نظراته كالحلم لكنّها حارقة كحرقة الجمرات في يدي.. نظراته تبحث عنّي تتعقّبني في وحدتي وفي خلائي وخلوتي.. أمامي أراه وخلفي ألقاه وبقربي وفي بعدي. صار وجودي وصرت أعرف معنى الوجود وسرّ تواجدي.. حفر في قلبي خدودا وجبالا ومدّ أنهاراو بحارا وفي كلّ يوم بل وفي كلّ ساعة يزيد حضوره في يكبر ويكبر حتّى صرت أمشي في ظلّه وأحتمي  بجذعه.. هو الحبّ أنزلك يا حبيبتي من السماء هو العشق رفعك فأنزلك ونزولك رفعة لك يا حبيبتي.. هو الحبّ هو العشق والغرام.. هو الجنون والمحال وهو المشي في النّوم والنوم على الجمر"..

وطال المطر وطال وقوفها تحت قوس الحجر.. أخرجت هاتفها المحمول" ليتني طلبت منه رقم هاتفه.. ليتني.. لكنّ خجلي منعني.. ترى أين هو؟ تراه يفكّر في وتراه يذكرني كما أذكره؟؟".. الساعة تقترب من السادسة مساء أوشك النّهار على الرّحيل والإدبار وهاهو اللّيل يأتي حثيثا مسرعا.. " آه من وحشة اللّيل ووحشة الطّائر الحزين وآه من غربة الكون وغربة الطائر المجنون.. ليته يأتي.. ليتني أذهب إليه "يارتني طيرة أطير حواليه مطرح ما يروح عيوني عليه".. صار اللّيل وحشة والوحدة غربة.. صار اللّيل ثقيلا طويلا لا ينتهي ولا الصّبح ينجلي.. أخاف وحدتي وأشتهيها وأشتهي وحشتي ولا أبغيها.. في سواحل الضياع أقيم وإلى  مدن العدم أسبح وأخوض "..

وسارت والسير أمل والأمل دواء وراحة.. سارت تحت المطر لم تعد تخاف المطر وإن أغرقتها مياه المطر..سارت تحت الأضواء الكئيبة لا تعبأ بالمطر ولا بالطّريق قلبها يحترق ويحترق" هو الحبّ إحراق و إحتراق و اختراق لكلّ الحجب وكسر وتخطّي لكل ّ الحواجز والأنفاق.. هو الحبّ ولادة ساعة موت وموت لحظة بعث.. ليته كان معي.. ليتني كنت معه وليتنا كنّا معا يجمعنا طريق يضمّنا سبيل ويوحّدنا مكان وزمان.. صار المكان هو وصار الزّمان هو وصارت تحيى به وفيه.. كانت تراه ولا تذكره.. تراه ولا يشغلها أمره... تراه ماشيا سارحا.. حزينا منفردا كطائر مغرّد.. هو لم يرها منذ سنوات طويلة عرفها في القرية صغيرة متحرّرة متفرّدة ومشاكسة.. غجريّة العينين والأهداب.. قمحيّة البشرة والملامح في نظراتها تحدّي وفي لفتاتها خشونة وقوّة. تساءل كثيرا من تكون هي؟.. كما يتساءل اليّوم كيف هي؟ وكيف أصبحت هي؟.. حين إلتقيا تذكّرها وذكرها.. ثمّ مضت.. والأيّام مضت وستمضي مثلما مضت...

 جابت الطرقات وغرقت في المستنقعات وتقاطرت أطرافها وتغلغل المطر في طيّاتها حتّى عبث بها.. لكنّها لم تبالي ولا تبالي بشيء هي غارقة منتحرة منقسمة ظاهرها في عالم وباطنها في عالم آخر.. جسدها هنا وقلبها هناك وعقلها يبحث عن مكان بينهما.. تعيش حالة بين حالتين بل حالة بين حالات عدّة.. تتعمّد الإخفاء وتتصنّع الكبرياء وتخفي ما تشاء غير أنّها لا تشاء.. وتحيى سكونا بين حركتين.. خفض ورفع وشدّ وضمّ وضياع وألم.. هي تخاف أن تكون أحلام عريان بالكساء والدفء أو هي أوهام يائس متعب.. تمضي ولا تمضي طال سيرها وطال مسيرها وزادت وتزايدت وحشتها حتّى بدأت تترنّح في مشيتها.. هو الحبّ هو الجنون وهو السكن في الحيرة والعشق في الغربة..