ماء ودماء

لطفي بن إبراهيم حتيرة

لطفي بن إبراهيم حتيرة

[email protected]

أحمل نفسك.. وحملها  أنفاسك وأوجاعك.. خذ دفاترك وضعها تحت إبطك المتعرّق المنتن وضع في  جيبك القلم الأحمر ولا تنس قلم الرّصاص ولفافات التبغ وولاعة اللّهب وأقرأ تبّت يدا أبي لهب وسر مرفوع الرّأس, بطّة في بحيرة السلطان.. طائر اللّقلق فوق عمود الهاتف..غراب يهتف بالوحدة.. رأسك محشوّ بالأخبار البالية والتواريخ الكاذبة والقصص الملفّقة.. قصص ليلة و ألف ليلة, و السند باد الكذّاب, وعلي بابا وماما والأربعون حرامي, ياعيوني لا تنامي وعلاء الدّين وسيف الدّولة والمصباح, وشهرزاد واللّيالي الحمراء الطويلة وصياح الدّيك في الصباح وأمّي سيسي تكنس تكنس وعبّاس بن فرناس... ووو... التّاريخ يكتبه المنتصرون  ويصدّقه المنهزمون الجبناء, ويدرّسه المرضى نفسيّا والمختلّون عقليّا والمصابون بفقر دم الوطنيّة.. يا ابن خلدون أنت قلت هذا" التّاريخ في ظاهره لا يزيد على الإخبار ولكن في باطنه نظر وتحقيق" وترفع عينيك إلى وجه ابن خلدون فتجده كعادته ساكنا قد علته الحيرة وكست وجهه الدّهشة.. وملأت عيناه الغربة والوحشة.. وقد بدأ يفقد صوابه.. يا ابن خلدون أنت قلت ونحن نردّد ولا نفقه شيئا.. هو لايهتمّ بك ولا يبالي.. إبن خلدون متعب يريد الجلوس في مقهى رأس الطابية ليشرب قدحا أو في زاوية سيدي محرز ليدرس ألفيّة إبن مالك.. أحمل رأسك بين كتفيك كبندول ساعة تك يمينا تك يسارا.. تك تك.. يسقط رأسك بين يديك يتدحرج أرضا فيضحك الطلاّب تفتح عينيك ويتدلّى لسانك.. تغرق وجهك حبّات الأرق وتملأ أنفك رائحة العرق.. تفتح النافذة وتفتح الخارطة.. من هنا كان الهجوم.. من هنا تبدأ كذبتك وتبدأ لعبتك الكدرة المتكدّرة من هنا تبدأ قذارة التاريخ وزيفه.. هذا كذب.. هذا نفاق.. لا عليك ردّد التاريخ كالببّغاء.. وأصرخ ناعقا كغراب شؤم أو كبومة تسكن خرائب الصفحات السوداء وتنام في ظلام القبور الجوفاء المنهارة... لاعليك فالتاريخ سلاح يحتكره الكبار وحليب يرضعه الصغار أمثالك.. لا عليك أنت حمار تحمل أسفارا إلى بلد لن تبلغه وما عليك إن بلغته أو لم تبلغه, تأكل الحشيش وتنام مجترّا لأحاديث متعفّنة, وآكلا لغذاء معلّب فقد صلاحيته منذ زمن بعيد.. تعبث بنفسك وتعبث بك مقرّرات وزارة التربية والتعليم..

... تفتح كتابا تقرأ عنوانا تتساقط نظراتك على المكتب يصيبك إعصار يدمّر الجسور والطّرقات أين تفرّ هم يحاصروك و ويضيّقون عليك الخناق" سلّم نفسك وألق كتبك بعيدا وأرم بقلمك على الأرض.. أنت محاصر" ترتعد وتنتفض مرفرفا محطّم الأجنحة والأجنحة بالدّم متقاطرة.. كنت فارغا كعلبة مفرّغة كجوزة هند مجفّفة أو كتينة يابسة وكسرة خبز متحجّرة في كفّ صبيّ  في قرية نائية.. "إن دفن الحقائق التاريخيّة تمّ بفعل فاعل عن سابق قصد وتصميم".. قتلوها ودفنوها و واروها قبرها وأهالوا عليها التراب ثمّ ذهبوا وتركوها ولو بقوا معها ما نفعوها.. من قال هذا من كتب هذا فكّرت وخمّنت واستسلمت أنت لا تتذكّر شيئا ولا تذكر شيئا.. بليد صرت عديم الفهم أصبحت.. قف هناك.. أجلس إلى مكتبك افتح كرّاسا وأكتب شيئا في يومياتك وعبّر عن رأيك.. قف أمام المرآة واجه نفسك, إسألها وأحرجها ولا تخف أم أنّك تخاف المواجهة...

" أنا محنّط الفكر متحنطّ التفكير.. أنا  في الظلام أتحسّس قبور الرجال وأتشمّم أتربة نديّة مبلّلة لكتّاب التأريخ أنا ثوريّ  لا أنا ثور متبلّد, متعجرف مسمّن ومدجّن أخدع نفسي ويخدعني التاريخ.. أنا أكذب على طلاّبي وأخاف المراقبين وأرتعش في حضورهم وتأخذ لساني الحبسة ولا أستطيع البيان     والإفصاح.. المدير الأصلع صاحب النظّارات ـ قعر دبّوزة ـ يقضي اليّوم  نائما في مكتبه كومة من اللّحم والشّحم مشخّرا ومطلقا ضراطه لا يبالي..المدير سارق يسرق أموال المدرسة ويسرق  أموال التلاميذ ويكذب عليهم ويعبث بأدواتهم ولا يخاف أحدا.. قوّاد كبير دودة حزبيّة وأفعى خبيثة.. عيونه عيون ذئب وأذناه أذنا بغل يعمل ليلا ويكتب تقاريره في الظلام تحت ضوء شمعة متشنّجة عابثة.. يهدّدني ويرفع التقارير عنّي وعن زملائي المدرّسين الشبان..أنا أكرهه وهو لا يطيقني ولا يتحمّل كلماتي.. إذا تكلّمت أوقفني في كلّ جملة مفنّدا أقوالي دون مبرّر"..

قال لك أحد الطلبة يوما..

 ـ "الدماء هي التـّي تحرّك عجلات التّاريخ"..

فقلت متسائلا..

 ـ من قال هذا؟..

فقال لك مبتسما..

 ـ موسوليني يقول هذا موسوليني يا أستاذ..

" موسوليني.. هتلر.. التتار والصليبيين من قبلهم والسوفيات و اليهود والأمريكان من بعدهم في العراق.. في لبنان في فلسطين وفي أفغانستان وفي كلّ مكان فيه عربي أو مسلم.. الدماء تحرّك عجلات التّاريخ ليس الماء".. وأخذتك الدماء التّي جرت من كتاب التّاريخ أنهارا.. صارت طوفانا حتّى وصلت إلى مكتب المدير..

 ـ سيّدي.. المدير يريدك..

هذه نهايتك بل هذه بداية المعركة.. كن بطلا لا ترتعش تمسّك وأمسك أطرافك لا تدعها للرّيح تضربها

ثبّت أقدامك في الأرض كنخلة أصلها ثابت وفرعها في السماء.. كن هادئا.. متماسكا.. يداك ملطّختان بالدماء وجهك وملابسك.. أثار الجريمة بادية عليك..

ولمّا دخلت أغلق البّاب خلفك وقال لك دون مقدّمات..

 ـ من يحرّك عجلات التاريخ يا أستاذ؟..

فقلت..

 ـ الدماء هي التي تحرّك عجلات التاريخ..

 ـ الدّماء... هكذا الدماء..

وتساقط على مكتبه يلتطم خدّه.. ثمّ قال لك..

 ـ أخرج.. أخرج..

وخرجت وكان ذلك آخر يوم لك في ذلك المعهد وأوّل سطر لك في كتاب التاريخ...