حرقة الاختيار

بن العربي غرابي

 تستلقي سلمى على سريرها بعدما ألقت محفظتها بعصبية مبالغ فيها وعيناها تشعان بأسئلة لا يحسن قراءتها إلا من مر بظروف مماثلة وخاطبت أختها الكبرى التي تتصفح كتابا في سريرها المحاذي لسريرها:

- تركتُ لذة الدراسة لك واشبعي بكتبك وأوراقك التي لا تساوي مجتمعة ثمن هاتف نقال معطوب.

ترد هند وقد شعرت بوخز الاعتداء على حلفائها المقربين وتشممت في عيني الأخت الصغيرة تطلعا ينذر في أثناء التنفيذ بتهور غير مسؤول:

- وما الذي ترينه مفيدا ؟ أفيديني ، فأنا شاخصة السمع إليك، أخبريني، فقد ننتفع جميعا باقتراحاتك.

- سترين أن النجاح في الحياة لا يرتبط بالسن إطلاقا بل بالنضج والحصافة التي تخون الكثيرين أمثالك .

 سلمى، التلميذة في السادسة عشرة من عمرها في السلك الإعدادي، يشغل تفكيرها ما يحدث لها هاته الأيام، في مشاهد تتتابع فصولها بشكل لاهث دون أن تترك لها متسعا من الوقت للتفكير وتقليب الأمور ظهرا لبطن كما يقولون، وما أثقل الأسئلة الكبرى على نفسيات من لا يستطيعون الوقوف في وجهها ! فتصبح تلك الأسئلة أجوبة حبلى بأسئلة أخرى في دوامة لا تنتهي ويكون وقودها طبعا تلك النفسيات الهشة المتشبثة بالحياة برجاء وخوف وتطلع واندفاع. لقد أهملت محفظتها وواجباتها المدرسية نهائيا وبات وقت المدرسة ضائعا وثقيلا وفضاء لمصارعة الاختيارات والمواقف والأفكار....منذ أيام ، بعثتها أمها إلى دكان الحاج عبد الله في الحي المجاور لحيِّهم لشراء قليل من الأرز لعشاء العائلة، لكنها استشعرت لهجة مغايرة تنبعث من عيني الحاج ولسانه، يتلصص النظر إليها ويتباطأ في إعداد المطلوب منه ويستحثها على الكلام في شؤون الحي والدراسة والبيت ولوَّح لها بأنها لم تعد تلك الفتاة الصغيرة وأن بإمكانها أن تصبح سيدة بيت ومالكة أسرة وأموال كثيرة لو تطاوعه وتقبل به زوجا في الحلال، كما أعطاها درسا في مدرسة الحياة وقال لها بلهجة رجل وقور:

- الفرص، كما تعلمين أو يجب أن تعلمي، تلوح في الأفق على استحياء والعاقل من يتلقفها بسرعة وحكمة و كل تقاعس أو تردد وتأخير يسيء وفادة الفرصة فتعود أدراجها وتبحث عن زبون جديد.

 في هاته الأيام كانت الصغيرة تتعمد الذهاب إلى الدكان بسبب ودون سبب، وفي تلك الأيام سخرت طاقاتها الاستخباراتية فعلمت أن الحاج حاج فعلا ويملك أراضي كثيرة ودكانا تتزاحم السلع في جنباته وله منزل كبير وأغنام يقوم بأمرها عاملان شابان، وله بنتان فقط تزوجتا خارج المدينة ويعيش لوحده بعد أن توفيت زوجته التي دامت العشرة بينهما سنين طويلة.

 لم تطل فترة الاستعدادات للزواج بفعل توفر الشرط المادي، وكان إنفاق الحاج سخيا، وتركت محفظتها في البيت تحت السرير واجتث اسمها من لوائح القسم وألقت بجسدها الصغير في النعيم الذي وفره الزوج لها بحسن نيته وأريحيته التي استمدها من تديُّن شعبي بسيط. لكن الأسئلة عادت إلى الظهور بعد خمود دام زمنا لا يستهان به رغم الإشباع والإغراءات المادية المتجددة، فكلما هيأت فراش النوم لهما تحول الحرير الذي تتقلب فيه إلى وخز أليم والطعام الفاخر إلى ارتجاج في الخلايا والأعصاب.

 ذات مساء وقد ذهب الحاج إلى الدكان بعد أداء صلاة العصر كالمعتاد، شعر بدوار شديد وتسارع في النبض وتعرق شديد حتى كاد أن يغمى عليه، وتمكن جيرانه التجار من نقله إلى المستشفى المركزي، وجاءها الخبر فهزها هزا عنيفا وذهبت مهطعة إلى المستشفى وأكد لها الطبيب أن الزوج يعاني من إرهاق ويحتاج إلى راحة مستمرة قد تحرمه من مزاولة العمل الذي يؤديه طيلة العمر، فعادت إلى البيت تسنده بإحدى يديها وتتحسس بالأخرى بطنها الصغير الذي يزداد حجمه يوما بعد يوم.