رسالة ليست كالرسائل

أبو محمد خليل

[email protected]

توقف هدير السيارة مع تناسل أولى خيوط الشمس. أحس بقشعريرة تسري في جسمه. انتابته نشوة الفرح و الحزن في آن: معانقة أرض عاش فيها أولى خطوات عمله، و أسف على سكانها الذين لازالوا يعيشون عيشة ضنكا. بعد ثلاثين سنة، هاهو يعود إلى هذه القصور المتناثرة في واد غير ذي زرع، شاهدة على بؤس مالكيها و شقائهم. انتبه إلى موكب غريب لاح أمام عينيه، يتكون من أعمدة كهربائية و حمار بانت عظامه النخرة، مدجج بقارورات ماء ذي لون رملي، و فلاح تظهر عليه علامة الفقر و البؤس و الشقاء ماسكا هاتفا خلويا. بدا هذا المشهد الغريب و المذهل و العجيب في الآن، كلوحة رسمت بريشة لا تتقن أبجدية الفن.

و سرعان ما انهالت عليه الذكريات وتزاحمت أحداثها، لتنظم عقدا من الزمن راح. و تجاذبته صور الحاضر و الماضي، مرها و حلوها، و بدأت تتعاوره و تتقاذفه ككرة قدم، لذلك لم يع ما يؤخر و ما يقدم. بيد أن أثر الجراح العميقة و ندوبها  كانت الفيصل الحاسم في ذلك. تذكر أول ليلة دامسة  قضاها في هذا المكان الذي استوحشه كثيرا. إذ وجد نفسه في منفاه الاختياري، يتجاذبه أمران أحلاهما مر، قال أبو فراس الحمداني:

قال صاحبي الفرار أم الردى.      قلت أمران أحلامها مر

كان عليه أن يختار بين أمرين، البقاء و تأدية رسالته النبيلة، أو يلتحق بصديقه إلى الضفة الأخرى. لكنه آثر حب الأوطان لأنه بضع من الإيمان، رغم انتفاء أبسط شروط الحياة الكريمة في هذه الفيافي القفار.

و سرعان ما تذكر ثمة مذكرة و رسالتين تركت شرخا في ذاكرته، صار وشما استحالت إزالته.

المذكرة:

لم يكد يتأقلم مع الوضع الجديد ناسيا أو متناسيا أضواء المدينة و إغراءاتها، مكتباتها، مسارحها...

حتى اطَّلع على المذكرة المشؤومة التي أجهزت على حق من حقوقه. فتحسر عن اليوم الذي قادته رجلاه إلى امتهان مهنة التعليم. ومادمت في المغرب فلا تستغرب. كانت لديه رغبة جامحة في مواصلة دراسته الجامعية، أسوة بابن خالته الذي تدرج في أسلاك التعليم لينتهي به المطاف أستاذا جامعيا.

الرسالة الأولى:

ما كاد يضمد جروحه حتى انتشلته رسالة صديق قادمة من وراء البحر، لتعيده إلى نقطة الصفر و تعمق الجراح التي لم تندمل بعد.

رسالة جاءته من بلاد الجن و الملائكة، فلم تنزل عليه بردا وسلاما بقدر ما كانت سيفا بتارا على رقبته، جعلته يعيش صراعا نفسيا لا قبل له به.

رسالة تدحرجت من الشمال إلى الجنوب، لتصل إلى حفرة من حفر الدنيا. يعود تاريخ ختمها إلى شهرين و تحمل صك الأولية " عبر الطائرة ". تساءل هل يمكن اختزال الزمان الحقيقي   الذي يفصل بينه و بين الصديق في ستين يوما؟ رثى  حاله وهو يتصفحها إلى درجة لم يتذكر مضمونها. فتذكر يوم ودع صديقه الذي فضل أن يستكمل دراسته في بلاد لويس الرابع عشر، بينما هو كان حظه أن يحط الرحال في هذه الأرض المنسية، آملا المزاوجة بين التدريس و الدراسة. رسالة تناقلتها مختلف وسائل المواصلات بدءا من الطائرة لتصله على ظهر بغلة. من كثرة الهم قهقه محدثا نفسه بأن هذه الرسالة على الأقل أفضل حالا منه استقلت الطائرة.

الرسالة الثانية:

عبثا حاول مع مرور الوقت أن يستسلم لقدره، كما استسلم الذين مروا من هذا المكان. وبعد شهرين تقريبا، تأتيه رسالة من صديقة غادرت المكان لتلتحق بزوجها، تشكره على الصور التي أرسلها إليها. مد له السيد المدير الرسالة و هو يبتسم، فأدرك للتو أن ثمة أمر في الموضوع. صدق حدسه حين لاحظ وجه الغرابة  في عنوانها: إلى السيد الحاج و َلغْزالَ عَبْدُو. فتبسم ضاحكا، وبينما حاول أن يجد تفسيرا له استفاق من أحلامه على وقع أقدام قادمة و أصوات ترحب به، فاختلطت عليه وجوه الأهالي وتشابكت الأيدي و كثر العناق تحت عبارات الميت ( الميت تحريف لكلمة le maitre ) رجع، الميت رجع...