لست ابني .. لا أعرفك

عبد الرحيم منصور

استيقظ أهل الحي من قيلولتهم عصر ذلك اليوم, على أصوات صراخ, وسباب, وشتائم, يغلفها غضب وحقد.. "إنه صوت الحاجة عائشة!!..." قالها الطفل غسان فهب والده منتفضاً.

فتحت الأبواب والنوافذ, خرج الرجال, وأطل النسوة برؤوسهن, يستطلعن الخبر.. كانت الحاجة عائشة في ثورة جنونية, وغضب غير مسبوق, وهي ترمي ملابس ابنها وأغراضه فوق رصيف الشارع, وتقول:

- اغرب عن وجهي يا حقير!!.. أنا لا أعرفك!!..أنت لست ابني!!.. قلبي يرفضك!!.. عقلي ينكرك!!.. وربي يلعنك أيها المجرم الحقير.. أيها القذر الدنيء!!..

الحاجة عائشة امرأة معتبرة, موضع تقدير واحترام جميع أهل الحي, بل وأهل المدينة.. معروفة بأصالتها.. مشهورة بأخلاقها وتدينها.. مضرب المثل في تعقلها وسداد رأيها.

كانت في ثورة غضب عارمة, تنشج وتبكي.. تكاد تختنق بدموعها.. وهي تشير الى ابنها وتقول: "كيف تكون ابني يا قذر؟.؟ كيف تجرؤ أن تناديني أمي؟!"

كان ابنها سعدون - وهذا اسمه - يلملم أشياءه التي رمتها أمه في وجهه وهي تطرده من المنزل.. لقد ربط لسانه, واحتبست الكلمات في حلقه, واكتسى وجهه ذلة ومهانة لا توصفان, وقد أدرك فظاعة فعلته..!

أهل الحي – الرجال والنساء والأطفال- ينظرون وقد تسمروا في أماكنهم, وعلت وجوههم الدهشة, وأخذت منهم الحيرة كل مأخذ.. فهل يعقل!! أن تتصرف الحاجة عائشة هكذا!!؟.. وهل يعقل أن يصدر منها مثل هذا الفعل؟!!.. لا شك أن أمراً فظيعاً قد حدث, وفعلاً شائناً شنيعاً فعله اينها هذا حتى كان منها هذا التصرف, وكل هذا الغضب.

وبقي السؤال معلقاً على رؤوس الشفاه: ما المشكلة؟ ما الأمر؟!

كان سعدون يؤدي خدمته الإلزامية كغيره من الشباب، وقد عاد في إجازة قصيرة لزيارة أمه.

استقبلته الحاجة عائشة بكل الحب والشوق الذي تحمله أمٌ لابنها الغائب، حضنته.. ضمته إلى صدرها.. عصرته عصراً.. قبلته.. شمته، ودموع الفرح برؤيته لا تنفك تجري في أخاديد وجنتيها المضرجتين بدماء الفرحة والسعادة.. طرحت عليه أسئلة متتالية مترادفة دون أن تنتظر لها جواباً.. استفسرت عن صحته.. عن أكله.. عن نومه.. عن يقظته...

وبعد فسحة من الراحة والأحاديث والضحكات المتبادلة، نهض سعدون وأحضر "شنطة يدوية فتحها.. أدخل يده في جوفها.. بحث في داخلها عن شيء.. وهو يمازح أمه التي تنظر إليه بشيء من الذهول.. ويقول: "احزري ماذا أحضرت لك يا ست الحبايب؟.. أغمضي عينيك.. استعدي للمفاجأة.."

سحب يده من الشنطة بطريقة تمثيلية، وقد أمسك بأسوارة ذهبية ثخينة ثمينة، وقال: "تفضلي هذه هدية مني إليك.. وارضي عني".

عقدت المفاجأة لسانها.. وجفت الكلمات في حلقها.. ولمعت عيناها بشيء من الذهول.. إلا أن يدها لم تمتد بعد للإمساك بها..! لا بد أن تعرف أولاً من أين جاء بها؟ فهي تعرف – كما يقولون – (البير وغطاه).

ولكنه صدمها بالقول: "هذه غنيمة يا أماه!!..".. تغيرت تعابير وجهها وقالت:

- "غنيمة؟! وكيف غنمتها؟!"

قال سعدون: "أخبرنا الضابط أن مجموعة من المندسين والإرهابيين المجرمين، يختبئون في بلدة دوما، فذهبنا في مهمة أمنية.. اقتحمنا البيوت.. وحاصرنا الرجال والنساء والأطفال.. وسقط بعض القتلى والجرحى.. المهم يا أماه كان هذا السوار في معصم امرأة أحد المجرمين.. وقد أغمي عليها لهول ما رأت، فتسابقت أنا وزميلي للاستيلاء عليها، وقد سبقته وانتزعتها من معصم المرأة وأنا أقول: لا تليق هذه الأسوارة إلى بمعصم أمي!!.. خذي.. البسيها.. دعيني أرى كم هي جميلة في يدك.."

انتفضت الحاجة عائشة كاللبؤة الجريحة.. وصرخت في وجهه.. وأنكرته.. وطردته.. من قلبها المكلوم قبل أن تطرده من المنزل، وهي تردد قائلة:

- "أنت لست ابني.. أنا لا أعرفك".