فدا الرئيس

عبد الرحيم منصور

لم يكن الشاب جبر كذلك قبل عام..

إنه الآن مجنون تماماً فاقد العقل، يجوب الشوارع والأزقة ويهتف للرئيس ونظامه فقط، ويفديه بالروح والدم ثم يبكي ويبكي لا يملُّ من الهتاف ولا يملُّ من البكاء.

كان جبر شاباً ممشوق القامة، قوي البنية، ممتلئاً نشاطاً وحيوية.

بعد أن حصل جبر على الثانوية العامة انتسب إلى الكلية العسكرية وتخرج منها ضابطاً برتبة ملازم، وكم كان فخوراً بذلك وحالماً وعلى الأخص عندما كان يأتي لزيارة الأهل في إجازاته الدورية حيث كان يسمع همسات الإعجاب به من أمه من صويحباتها وجاراتها، لا سيما عندما تتطرق أمه في حديثها مع الجارات والصويحبات إلى الخطبة والزواج، حيث كان جبر يراقب سراً عيون الفتيات التي تمد إعجاباً به فتمد كل واحدة منهن قامتها وتحسن من هندامها لعل الاختيار يقع عليها إذا عزمت أم "الملازم جبر" على البحث عن خطيبة له.

يعود الملازم جبر إلى قطعته بعد كل إجازة وهو يحمل في خياله صور أولئك الفتيات، حيث يعمد إلى استرجاعها واستذكارها في وقت استراحته. لكنه كان يشعر بالإحباط عندما يتذكر أخاه الذي يكبره بعامين والذي لا يزال طالباً في السنة الخامسة في كلية الطب لاعتقاده أن أمه لن تقبل أن تزوجه قبل أخيه الأكبر كما هي العادة فيطوي جبر صفحة خياله ويتمتم: كيف يمكن أن أتزوج قبل أخي الكبير؟!..

فهو يحب أخاه كثيراً ويحترمه ويقدره ويرقب بفارغ الصبر اليوم الذي يراه في عيادته طبيباً ناجحاً.

وصل الربيع العربي إلى سورية، وهبت رياح الثورة وانفجر الشارع السوري بالمظاهرات السلمية تنادي بالإصلاح والحرية بعد سيادة الظلم والجور والفساد لعقود وسنوات طويلة، وبدل أن يستجيب النظام لمطالب الشعب العادلة والمشروعة انبرى يتهم المتظاهرين بالعمالة والإرهاب والفساد، وتصدى لهم بقوة السلاح وجبروت الأجهزة الأمنية، فسقط الشهداء، وجرت سيول الدماء وزاد الحراك الشعبي، وعمت المظاهرات السلمية البلاد من أقصاها إلى أقصاها..

كان جبر مهووساً بدعايات النظام وأكاذبيه، متأثراً بالأراجيف التي يشحن بها عقله ووجدانه ويجبره مع أمثاله على الاستماع إليها صباح مساء وكأنها صلوات مفروضة حتى صار مثل آلة تعمل بـ "البطارية".

وحدث أن انطلقت مظاهرات حاشدة ملأت شوارع المدينة، وعلى رأس هذه المظاهرات طلاب الجامعات وعلى الأخص طلاب كلية الطب.

ونزل الجيش يتصدى للصدور العارية، وكان الملازم جبر من أبرز المتحمسين للتصدي لهذه المظاهرات، وبالذخيرة الحية والرصاص القاتل، وأسفرت المعركة المصطنعة عن سقوط عشرات القتلى وأضعافهم من الجرحى في صفوف المتظاهرين السلميين.

وعاد جبر بعد انتهاء المهمة إلى كتيبته منتشياً وكأنه حقق إنجازاً ضخماً في جبهة الأعداء.

وهو في عنفوان نشوته وسعادته انطلق صوت الهاتف الجوال بنزقٍ، وسلّمه الصوت من الطرف الآخر نبأ مفاجئاً وصاعقاً:

- أهنئك يا سيد جبر.. لقد استشهد أخوك في الصباح أثناء المظاهرة السلمية التي انطلقت من الجامعة.

هام الملازم جبر على وجهه ولم يعد إلى قطعته بعد سماع هذا الخبر إنما بقي هائماً في الدروب والأزقة يهتف للنظام ورئيسه، وتلاحقه ضحكات المواطنين وسخريتهم وهو لا ينفك يبكي ويقول:

- "قتلته بيدي هاتين.. قتلته بيدي هاتين". ويعود إلى الهتاف والبكاء.