أحلام مدماة

عبد الرحيم منصور

كان الكثيرون يتساءلون: آما آن لهذا الرجل الهادئ الرزين أن يرتاح؟!.. إنه يجوب الشوارع صامتاً, وهو يحمل بين يديه صورة الرئيس مع زوجته وأولاده الثلاثة, تلك الصورة التي كانت تثير غضب الكثيرين... كان يغيب عن البلدة أياماً, وربما أسابيع, ثم يعود, والصورة بين يديه, ينظر إليها بين الفينة والفينة, ثم يتأمل الوجوه من حوله, وهو يبتسم ابتسامة ذات معنى, وعندما خرج عن صمته في أحد الأيام قال بصوت جهوري: قسماً لأنالن منهم ولو سكنوا القمر, أو رحلوا إلى المريخ..! وأنا صابر عبد القوي..!!

ومن في البلدة لا يعرف صابر عبد القوي؟! إنه مواطن سوري عادي, لا يمتاز عن كثير من المواطنين إلا بهدوئه ودماثة أخلاقه, وجدّه في عمله, فهو موضع تقدير واحترام معارفه جميعاً. وصابر عبد القوي له من اسمه نصيب كبير, وسمات كثيرة, فهو فعلاً صابر, وفعلاً عبد القوي.

تزوج وقلبه يهفو إلى رائحة الولد, كما تهفو نفس المؤمن الى رائحة الجنة, مر عام.. عامان.. ستة أعوام.. ولا يزال المنال صعباً.. راجع الأطباء.. والمراكز الطبية التي تعنى بهذا الأمر دون كلل أو ملل, إلى أن ظهر له بعد هذا العناء بصيص أمل.. طفل الأنابيب.. بادر دون توان... وأخيراً ارتسمت الفرحة على محياه وغمرت البهجة حياته.. فراح يشكر الله على النعمة التي لا تحصى من الشكر.. ذبائح .. صيام.. صدقات.. بالسر والعلن..

شارف ابنه (هبة الله) السادسة من عمره, فكان هبة الله هو الهواء الذي يتنفسه صابر, وكان النور الذي يبصر به, وكان اللسان الذي ما فتئ يذكر الله به ويشكره ويحمده صباح مساء... حتى أعد صابر ابنه لدخول المدرسة, وهو يحلم له بأحلام لا حد لها، فربما يصير طبيباً بارعاً.. أو مهندساً فناناً.. أو قائداً مغروراً.. أو يكون رئيساً يقود شعبه الى شواطئ العزة والكرامة.. تضج هذه الأحلام في رأسه وهو يوصل ابنه إلى المدرسة القريبة صباحاً, وينتظر عودته منها ظهراً.

وفي ظهر أحد الأيام, يقف صابر يرقب الشارع من نافذة غرفته, ليمتع نظره بمشاهدة ابنـه (هبة الله) وهو عائد من المدرسة.. يحمل حقيبته الصغيرة على ظهره.. يمشي متثاقلاً على رصيف الشارع, يلتفت يميناً ويساراً كعادة الأطفال, ويركل هنا حجراً برجله, ويصرخ على هر هناك... ويحيّي صديقه على الرصيف المقابل... أما أبوه فكان يرصد كل حركة, ولا يتركه يغيب عن ناظريه, حتى يدخل البيت ويلقي بجسمه الصغير في حضن أبيه...

قال صابر هامساً, ولما يغادر النافذة: لقد تأخر هبة الله !!!

وهو في هذه اللحظات القلقة.. تناهى إلى سمعه أصوات غاضبة حانقة, ثم أخذت الأصوات تقترب شيئاً فشيئاً, قال: هذه مظاهرة الشباب. ففي ربيع هذا العام, انفجر بركان بعد ضغط دام أربعين... وهبت المدن والقرى والأرياف بمظاهرات واحتجاجات عارمة عاصفة, تطالب بالحرية والعدل والإنصاف... لقد كان صابر عبد القوي شديد الامتنان لأولئك الشباب المتظاهرين, كثير الدعاء لهم عقب كل صلاة... ولكن... أين هبة الله؟!

ظهرت لعينه طليعة المظاهرة, ثم أخذت تقترب وتقترب كأنها تقصده.. رفع يديه إلى السماء وراح يدعو لهم بالنصر والحفظ والتوفيق, ولكن المتظاهرين كانوا يقصدون بيته فعلاً ونداؤهم: لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله.

ترك النافذة وأسرع إلى الباب... ويا هول ما رأى... ابنه مسجى بين ذراعي أحد الشباب المتظاهرين, والدماء تغسله, قال له الشاب: كان ابنك على الرصيف ينظر إلى المظاهرة, ويتفرج على المتظاهرين, فاستهدفه قناص مجرم, هنيئاً لك .. هنيئاً له.. إنه حبيب الله...

كتم صابر ألمه.. كتم حزنه.. واستعان بما يحفظه من أدعية وأوراد, حتى اندهش كل الناظرين إليه.. أما الوالدة فما إن لمحت ابنها مكللاً بدمه حتى شهقت ثم سقطت أرضاً تسبقها صرخة: يا الله...

وفي صباح اليوم التالي, كان أهل البلدة يشيعون جنازة أم تحتضن ابنها, وما لبثت أن تحولت الجنازة إلى مظاهرة منددة.. غضبى, يشارك بها الآلاف المؤلفة, التي لم يدر أحد من أين وكيف تجمعوا؟!... حتى ملأ هتافهم فضاء المدينة من أقصاها إلى أقصاها.

أما الأب صابر فكان هادئاً رزيناً ترتسم على شفتيه ابتسامة الرضا, وعلى ملامحه علامات العزم على الانتقام.