زفّة العريس

عبد الرحيم منصور

انطلقت في جوٍ مشحون بالحزن والقلق والهم زغرودة شقت ذلك الصمت الكئيب الذي استولى على النوافذ والأبواب وألعاب الأطفال.

إنها أم فارس تنادي وتزغرد.. قالت إحدى الجارات: ما الخبر؟ "اللهم اجعله خير".

أم فارس لا زالت تزغرد وتنادي: لقد وصل العريس.. هيا إلى الزفة يا جيران، وصل زين الشباب.. أرجوكم يا جيران زفوه بسرعة فعروسه تنتظر!!.

وصل النسوة قبل الرجال إلى بيت أم فارس وهم في ذهول تام. وكانت المفاجأة!! الحي موج متلاطم من الشباب والأطفال والكهول ترتج الأرض من صوت هتافهم، وشاب في ريعان العمر يحلق فوق الرؤوس ترفعه زنود الشباب السمراء، والدم الأحمر القاني يضرج وجهه وعنقه، والصوت الهادر ينطلق من الحناجر "لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله"..

إنه محمود الابن الثاني لأم فارس.. كانت أم فارس تعد الأيام بل الساعات لتكحل عينيها بعودة ابنها محمود سالماً وقد أنهى خدمة العلم كي تسعى بزواجه كما وعدته مراراً: "انهي خدمتك ولسوف أخطب لك الفتاة التي تريد، ولو كانت ابنة ملك".

في إجازته الأخيرة كان محمود ملازماً لأمه، دائم التقرب إليها، لا يكد يطيق الابتعاد عنها، يلبي طلباتها، وينفذ أوامرها، بل ويمازحها على غير عادته ممازحة تضايقها وتقلقها في آن واحد، ثم يعتذر منها، ويقبل يديها، ويطلب رضاها، وهي تقول له بمحبة وانزعاج مصطنع:

- ما بك يا ولد..؟! ألم تكبر بعد؟!!

في القطعة العسكرية حيث يخدم جاءت أوامر بالاستعداد لتنفيذ مهمة مستعجلة.. استعد جميع الجنود وهم صامتون دون أن يخطر ببال أحدهم أن يسأل عن هذه المهمة وطبيعتها، صعدوا الشاحنات العسكرية.. وصلوا إلى إحدى البلدان كانت هذه المرة الأولى التي يرى فيها الجنود مظاهرة حاشدة يحتج بها المتظاهرون على ممارسات النظام ويطالبون بالحرية والإصلاح، وأوشك الجميع على الانخراط مع المتظاهرين لولا أنهم في "مهمة عسكرية" لقد أفهمهم الآمر أن مهمتهم محددة بمنع المتظاهرين من التخريب والاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة.

ولكن الجميع ذهلوا عندما فاجأهم رجال أمن النظام ومخابراته بأوامر غريبة بل مستحيلة.. طلب منهم رجال المخابرات التصدي للمتظاهرين بإطلاق الرصاص الحي إلى الصدور والرؤوس لتفريق المتظاهرين.

إنه أمر فظيع!! يا للهول.. غير معقول.. نظر الجنود بعضهم في وجوه بعض وقد تملكتهم الحيرة.. كيف يوجهون نيران بنادقهم إلى صدور مواطنيهم وأبناء بلدهم وأهاليهم!!

قال أحدهم: لا تندهشوا.. لعل ضابط الأمن ومن معه يمزحون أو يقصدون التهديد فقط!! لعلهم يقصدون أن نطلق النار في الهواء.. في الجو للتخويف والترهيب..

لكن الأمر كان صريحاً واضحاً.. صارماً "إطلاق النار للقتل نعم للقتل؟!"

فكر محمود: كيف أطلق النار على أبناء شعبي؟ هب أن بينهم أخي.. ابن عمي.. ابن جيراني.. صديق الدراسة.. رفيق الملاعب..

وقف ضابط الأمن خلف محمود عندما لمح علامات التردد بادية عليه وصرخ فيه:

- أطلق.. أطلق يا كلب.. أطلق وإلا قتلتك!!

احتار محمود وارتبك.. لم يستطع أن يصدق ما يسمع، وقبل أن يفيق من دهشته كان مسدس ضابط الأمن ملاصقاً لرأسه ويقول له: ترفض الأوامر العسكرية إذن خذ..

طلقه.. طلقتان.. ثلاثة سقط محمود جثة هامدة تغسلها الدماء الطاهرة ومضى شهيداً ترفرف روحه في فضاءات رحبة وهي تصعد إلى بارئها وتختال فوق رؤوس المتظاهرين تمدهم بالقوة والثبات، وكانت زفة من نوع آخر، وزغرودة أم فارس ترسم معالم حياة جديدة فيها تباشير الحرية والسعادة والكبرياء.