انتصار على الذاكرة

انتصار على الذاكرة

شيماء اعبيدو

تن تن تن .. ترن أجراس الذكريات بقلبها;  أجراس مزعجة ترغمها على الإلتفات إلى الوراء و شراء تذكرة الماضي ليقلها قطار الحسرة و الندم إلى أرض الفراق و اللق... أرض الحزن و السعادة.. إلى عاصمة التناقض مسقط رأس مراهقتها و حبها الأول ..تشتري التذكرة و تنطلق في رحلتها المضجرة ..تصادف في طريقها أبطال قصصها السابقة التي ظنت ذات يوم أن كلا منها هي قصتها الكبرى ؛ ترفع رأسها و تبتسم بحسرة ؛ يكمل القطار طريقه دون أن يغير مساره و هي تدندن مع أغنية فيروز " أنا لحبيبي و حبيبي إلي " فإذا بها تتلقى رسالة نصية على هاتفها من رفيقة عمرها تقول " أرجوك لا تفعلي ذلك بنفسك لا يزال أمامك متسع من الوقت ؛ يمكنك التراجع " تتجاهل الرسالة فتغلق الهاتف و فجأة يتوقف القطار أمام قلعة كبيرة إنها قلعة أحلامها يتربع على عرشها أمير حكيم كامل المواصفات في نظرها فهو بعيد كل البعد عن المعتاد هو ليس شخصا عاديا هو فريد من نوعه بل هو الوحيد من نوعه و الأربعون منه فارقوا الحياة منذ زمن بعيد كيف لا و هو الشخص الذي إذا رحل تصعب بل تستحيل عودته فهو صعب المنال و لا تناله سوى أميرة النساء لذا فهي تكتفي بكونها سكنت قلبه ذات يوم و امتلكته في عهد مضى ؛ صك ملكيتها في يده بينما صك ملكيته مفقود في صحراء بعيدة و من يحصل عليه يحصل على الفوز هو بمثابة ورقة الجوكر لا يراهن سوى على نفسه و من يحصل عليه هو بالتأكيد الفائز ... 

أغبية هي ؟ لأنها لم تمارس حيل حواء للإحتفاظ به وإطالة عمر حكايتهما التي انتهت عند أول حرف من عنوانها و حكم عليها بالإعدام دون أن تحظى بمحاكمة عادلة أم كان ذنبها أنها حافظت على عفويتها طوال الوقت فلم تتصنع لإخفاء عيوبها ؟ أم ربما لأنها كانت دوما رهن إشارته  في القول و الفعل  فجعلت الحب وجها آخر للعبودية ؛ قد تكون هاته أكبر غلطة لها فمن ولدت أميرة لا يصح أن تكون جارية ولكن حتى خضوعها له لم يرضي غروره كما ينبغي فلم يكن كافيا كل ذلك للإحتفاظ برجل متعجرف يتنفس غروره و يحيا بكبريائه ...أم كان الذنب ذنبه و ذنب أنانيته ؟ فهو الذي كان كل شيء يدور حوله . . كل شيء له ؛ هي له ؛ قلبها ؛ جسدها ؛ حبها ؛ قراراتها ؛ حرياتها و حتى صديقاتها .. هاهو إذن يتقدم عاريا مجردا من مواصفاته الكاملة و من ثوبه الطاهر المزيف و تظهر أجزاءه المظلمة و تتوضح عيوبه المخفية فهي لم تعد ترى بعين الحب العمياء بل بعين الحقيقة و الواقع المرير ...

و عادت هذه الأسئلة المحيرة تحوم داخل ذهنها المتعب ؛ و عادت تندب حظها العاثر و سرعان ما دخلت في نوبة من البكاء لم تنتهي منها إلا بعد بدء صديقها الأمل بالحديث ليذكرها بأجمل مواقفها معه في لحظاته العصيبة و أرق كلماتها التي كانت تداوي جروحه و آلامه التي تذبحه ؛ في محاولة لتجريدها من حزام الحسرة و أثواب الندم الطويلة ؛ فليس هناك ما تندم عليه ؛ يقاطعه الضمير " بلى يوجد الكثير كي تندم عليه .. أجمل أيام عمرها ضاعت و انفرطت كحبات العقد في محاولات بائسة لنسيانه ؛ و أجمل أوقات قد تقضيها شابة في ربيع عمرها ؛ قضتها في الكتابة عنه سرا .. و في نشر كلمات كيبوردية تلعن فيها الحب و الرجال و تندب حظها التعيس و تنتقد العشاق مشفقة على حالهم حالها حال عجوز عقيم مات زوجها ... وكل ما في الامر أنها تشفق على حالها التي لاحظها الجميع ؛ اسود وجهها و اكتئب و غطت تجاعيد الحزن تقسيماته فذبلت من كانت وردة الحب والبهاء و لم تكن كلماتها تلك سوى مبررات تبدو منطقية لهزيمتها الكبرى أمام حبيبها الراحل لتوهم كبريائها بانتصار كلماتها امام صمته و حضورها امام غيابه و إخلاصها أمام غدره و توهم نفسها بنسيان مزيف و كاذب و الحقيقة أن ذاكرتها الحافية في كامل قواها العاطفية كلما أمرتها بانتعال خفي النسيان طاردتها بوجهه ... يستمر الضمير في حديثه و هو يزداد غضبا و حزنا  ... و هي تنظر في ساعتها و تمسح دموعها التي انسابت على وجنتيها الحمراوتين ؛ تطلب من سائق القطار " الماضي" المضي قدما نحو المحطة التالية و هي تودع القلعة ملوحة بيديها لأشباه الأبطال الذين عاشوا ذات يوم بقلبها المهجورق ؛ فهي اليوم ترغب بشدة في التخلص من الذكريات التي تلاحقها ،الحلوة و المريرة ؛ تريد التجرد من ماضيها و خلع جلد ذاكرتها بإخراج الجثث المرمية على أثاث قلبها ... و ما ان تحرك القطار حتى رأت نسخا كثيرة متشابهة ... يبدو ان الطريق لازال طويلا أمامها للتخلص من ذكرياتها الراسخة في عقلها قبل قلبها فهي كلما بحثت في نفسها عن الآخرين لم تجد سواه كأنه انعكاس لها في مرآة مكسورة و كلما بحثت عنه لم تجد سوى نفسها الحزينة التي لا تكتمل بدونه .. التفكير به إذن ؛ أصبح ضمن طقوسها اليومية و البكاء عليه ليلا صار مدونا في جدول أولوياتها ؛ والتخلص من ذكراه أمر صعب لكنه بالتأكيد ليس مستحيل ...

فصحيح ان الحب الاول لا يموت ؛ لكنه يؤئد  ؛ تواصل التجول في عالمها الخاص فإذا بكل قراراتها تنكمش امامها ؛ كل اختياراتها السابقة تتلاشى و حتى أبطالها السابقون يتبددون امامها ؛ كل رهاناتها على المحك الآن لكنها ترفض المراهنة على نفس الورقة ... هي اليوم لن تكون مع الجوكر فقد تعلمت قوانين المقمرة جيدا ؛ تبتسم ابتسامة عريضة و هي تقول " كش ملك " فقد تمكنت أخيرا من تحقيق النصر أمام ذاكرتها على طاولة الشطرنج ... تنتهي رحلتها هنا اذن ؛ بعودة القطار إلى محطة الحاضر ؛ تخلع عنها نظارتي الذاكرة لترى بعين الواقع ؛ تمسك بهاتفها و ترد على صديقتها برسالة نصية " لا بأس يا عزيزتي ؛ النصيب دوما شيء آخر .. لقد قبلت به و انتهى .. " ترتدي معطفها و تضع وشاحها ثم تترك أوراقها و قلمها الأسود فوق الطاولة ؛ و تغادر المقهى بهدوء .. في طريقها الى المنزل لإتمام مراسيم زواجها بالرجل الذي اختاره والدها .. و هي تدندن " انا مو لحبيبي و حبيبي مو إلي