لاحَ بَغتة الفتى

هشام جلال أبو سعدة

هشام جلال أبو سعدة

[email protected]

تشعُر سماء في طريق ذهابها لعملها يوميًا بحالة تشاؤم تنتابها، فترتعد. لم تعرِفُ لها سببًا في البداية. مرَّ الوقت. التفتت لِما حولها بتمهلٍ، مَشت وعاشت، وجدت أن ما تراهُ اليومَ مُشابهًا لكُلِّ يوم، اتخذتَ مسارًا أرضيًا مَفحوتًا داخل أنفاق سُفلية باهتة.

كَأَنَّها اليوم في رحلة لحَتَّى الآخرة؛ مُغادرةٍ للدُنيا بلا عودةُ. لم ينجح المُختصون في وقف تمددات المناطق العشوائية، امتلئت بالِمُهمشين؛ فقراءٌ ومتسولون وثُلةٌ من مجرمينٍ وأفاقينٍ ونصابين، معهم لفيفٌ من الخارجين عن القانون، بقلةٍ مُبتسمة لا تتعدى النصف في الكُلِّ ألف ممن التحقوا بالتعليم فاتخذوا المراكز العليا، فضربوا بِهم المثل في التفوق. عمّت تجربة العشوائية الدولة، فمن رغب في احتلال الأرض؛ سرقتها؛ فعل، لتتصالح معه الحكومة! لتُعطيها له بالمجان! حتمًا كُلَّما اقتربت شهور الانتخابات المحلية والشعبية أو رغبة في تنفيذ حُكم السياسات، ليعمموا الفعلة الفريدة في خططٍ قادمة.

في كُلّ يوم وليلة تركبُ سَماء آخذة الطريق الواصل بين سكنها في الناطحة شرق المدينة مُتجهةٌ لعملها في المركز الطبي لمكافحة الحيوانات الضالة بالقرب من الحدود الغربية الجنوبية. عزَفَّتْ عن ركوب سيارتها الخاصة، فلم تَعُد تتحمل القيادة في طرقاتٍ مُزدحمةٍ مُلتهبة، عافت سيارات الأجرة من كثرة رخامة وسآلة سائقيها المتطفلين بعيونٍ تفلقُ الحجر وتعليقاتٍ سَمِجة، فاختارت القطارات الدائرة في الأنفاق التحتية المدفونة. تأخرتَ اليوم على غيرِّ عادتها، فلم تُغادر في الموعد، خلافها الدائم مع زوجها زاد، احتدَّت هي عليه بعنفٍ فصفعها هو بعنفٍ أشد، لم تبكِ، بل لم تُعره التفاتة لمنعها تخرج، ضربت بكلامه عُرض الحائط، فصلت أمها بينهما كالمعتاد.

في الواحدة وعشرون دقيقة، الطرقات باتت مُزدحمة كَأنَّها في ساعةِ ذُروة، للحقِّ لم تعُد للمدينة ساعات ذروة، اليوم كُلُّه ذروة، فتملأ الناس الطرقات ليل نهار. زحامٌ مُتصلٌ بِلا داعٍ. يَهلُ على المدينةِ أكثرُ من ضعفّي عدد سكانها من كُلِّ حدّبٍ وصوب، آتون من أقاصي البلاد البعيدة والمتاخمة، عملٌ واسترزاق، تعليمٌ واستشفاء، قضاءُ مصالحٍ ونهب. اختفت اللامركزية فتمركزت النشاطات الإنسانية كافة في قلب المدينة؛ فلم تعد المدينة حضريةٌ، .. ترَّيفت.

في كلِّ يومٍ وليلة في طريق ذهابها والعودة، في أيِّ وقتٍ من ليلٍ أو نهارٍ، تتعرض سماء لمُضايقات المُهمشون؛ يباغتوها هي وغيرها بضرورة شراء أشياء لا تحتاجها، يُلقيها الصبيان على أفخاذها، ليعودوا ليلِموها؛ بين كلامٍ وتلقيحاتٍ فاجرة. يا ويلها لو لم تأخُذ ما ألقوه، نهار والديها يبقى أسود غطيس، لهم ابتساماتٌ صفراء بأسنانٍ بشعةٍ لم تعرف الغسيل ولو لمرَّة خطًا، اهترئَّت من المخدرات وشم الكُّلة. لتشتري ما يلقوُّه غصبًا عنها، تدفع فيه بضعة قروش، مُغتصبةٌ منها، لتبتاع كرامتها، لتُلقي ما ابتاعت في أقربِ سلة مُهملاتٍ مُمتلئة. لا تنظُر لِما ألقتْ أبدًا، تعرفه، نعناعٌ فاسد، شيكولاته مُصنعة تحت بئر السلم بموادٍ منتهيةٍ للصلاحية، أوراقُ أدعيةٍ وأحجبةٍ، تبرُّع لبناء دورعبادة، كروتُ شحنٍ وأجهزةٌ فاسدة. من يُلقِ بما معه له سِحنةٌ مُتجهمةٌ، مرسومًا على وجههِ غضبُ الله، لحَتَّىَ باتت ترتعب من ارتياد الطرقات والمسالك وحدها ليلًا أو نهارًا. أكثر ما بات يهينها حينما تَّضطَّرُ للركوب في أوقاتِ الزحام تعرُّضها المُباغِّت لبشرٍ يبدو عليهم تخطوا لسن الشباب، فقدوا الاحترام والكياسة، يفعلوا الموبقات في عرض الطريق دونِ خشية. تتحول رحلة العمل الصباحية والمسائية لمغامرة جنسية، ينهشوا فيها لحم النساء؛ فتيات وصبايا وعجائز، فلا يهم الشكل ولا السن، فكُلٌّهم يرغب في تلمس جسد امرأة:

-       هي حكت ذلك. أجل، سماء حكت لفيفي.

صدفَ اليوم وقوفِها بجوارِ رجل يبدو تخطىى أربعينه. وسيمٌ، رقيقٌ، مهذبٌ، نظرَّ إليها مليًا. أعجبته. فقد كانت جميلةٌ، مثيرةٌ، فاتنةٌ، ناعمةٌ ناعسة، تبدو في عينيها رغبة آثرة داعية؛ تدعو من ينظر لها، فاقترب دون قصدٍ، عيونهُ زائغة، أنفاثهُ متلاحقَّة. أول مرَّة تراه اليوم ذاهب في نفس اتجاه عملها، دَنا مِنها كثيرًا جداَ، عن عمدٍ، وقفَ بجوارِها، ثم نظر إليها بحياءٍ، اقترب فلمس.

تعجبتُ مما تُظهره أفلام السينما عما يحصل في وسائل النقل من تحرشٍ؛ فيختاروهم رجالٌ أغلاظٍ بوجوهٍ مُكفهِّرةٍ لعمل تلك الفِعلة الشاذة. فها هنا شابٌ وسيمٌ لطيف، يبدو من مظهره، من ملبسه، أنه متعلمٌ، ابن ناس، لا تتبين عليه علامات الغلظة. دَنا منها ببطءٍ، لم تتحرك من مكانها. ظل يناور الزحام لحَتَّى بات خلفها تمامًا، تلامس بجسده مع جسدها. نظرتله مُرتابةٌ من خلفِ أعلى كتفها، بركنِ عينها، لمحت حبات العرق مُتناثرة على وجهه، تحول محمرًا.

لم تُحرِّك هي ساكنًا، تحرك هو يمينًا ويسارًا. زاد احتكاكه، يدفعه راكبين من خلفهِ قصرًا، راح بقوة ناحيتها قهرًا، لم تراوح مكانها، تشعر بتحجرِ عمود صلب بين فخذيها. لم تعتد هذا الشعور؛ فعلى الرغم من كونها متزوجة، إلَّا أن زوجها يفتقد لتلك القدرة. ظل يضغط، فبقت مُستسلمةٌ، مُترقبة. تختبره، هادئة، يخطفها ملمسه العجيب. هدأ بهدوءها فقل اضطرابه، واقفة هي مُختلسةٌ النظر إليه، واقفًا هو مُختلِسًا النظر فيمن حوله.

يختلِسُ الفقير بابا كعادته النظر بنصفِ عينٍ ذاهبًا في طريقه من  مسكنه شرق المدينة مُتجهًا في مسلكه للساحة الاحتفالية لمقابلة رفاقه، مُعلقًا في إذنيه سماعة كحبة الفستق، لا يشعر بالناس ولا بالمسافات، لفتتَ الفتاة نظره إليها كعادتها، ليعود ليخفي عينيه المُتلصصة رافعًا بين يديه آلة، يقرأ فيها رواية كعادته. اليوم معه رواية القُدْسُ عَادَتْ.

***

أعوامٌ مرَّت طويلة على احتلال أبناء صهيون لأرض المقدس، بعدها خرج فتى مِغوار من المقدسيين أنفسهم، من بين أهل بيت أهل المقدس، لم يكن له همّ الفتى إلَّا تحرير الأراضي المُغتصبة. صباح يوم خريفي غائم، فاقوا وجدوا الحربَ مُحتدِمة، قائمة. وحدَّ القبائل المتنافرة، لم آشتات المتناحرين على السلطة والمال والحظوة والنفوذ. لم تله الفتى رغبةٌ سرية، لم يتكلم كثيرًا. خرج من بين الرعاة، أبوه وأمه وتِسعةً من اخوته حاربوا معه، ظلوا مُتمسكين بالأرض. لم يخرجوا، لم يبيعوا، لم ينتظروا عونًا من بلدانٍ عربيةٍ باتت فظّة، تفرغت للخصام، صنعتها الكلام، هادنت ولانت، بعضها لم يبق لها هم إلَّا التخوين، البعض الآخر هَمهُ في السلطةِ والتوريث. باغت الكُلّ، لم ينتظر أحد، عافت نفسه رائحة أفواههم ونفخاتُ كروشِهم في القاعات المُغلقة.

التهب القتال في طرقاتِ المدينةِ الباسلة، احتدم أيام وليالي. ابيضتَ سماءُ المدينةِ بهولِ بارودِ مُتطّايرٍ، استعان بتقنياتِ حروب فائتة، قاوم بشرف التقنية المُعاصرة، لم تُرعبه أسلحة ليزر نفاثة ولا صواريخ عدوٌ غادرٌ بلاستيكية. أمن بالله، تفرَّغ للإله، حارب ومن معه بالسيوف البيضاء والخناجر. تخلوا اليومَ عن الحجارة. نبذوا الفُرقة وحدُّوا أنفسهم، أغلقوا على فتيانِهم طريق صرا ع دائر مُظلم كان بينهم. الفتى له هيبةٌ وشمخة وصوتٌ مسموعٍ، أمَن بمنطق لن تتحرر أرضنا إلّا بأيدينا، فمن هم في الخارج لديهم أطماعهم. ها هنا ينظر الفقير بابا لفتاةِ القطار والفتى ثم ينظر لمن معه في القطار، يعود ليقرأ في آلته بصوت:

-       لاح بغتة الفتى..، كُلَّ همه تحرير الأرض.

يصمت ليسمع أنشودة القدس لنا.. يشدو المُغني في أذنيه إنما يكاد من يجاورنه يسمعون معه أنشودته:

عادَتْ إلينَا قُدْسَنا،..

أعَادها إَلينا ابننَا،..

وسط أطراح البكارة،..

لاحَ بغتة الفتى،..

***

-       من فضلك، .. أنتَ تضغط عليَّ بقوة.

صوت سَماء ناعمًا لاهثًا تنظُرَ للفتى الواقف وراءها فيكادُ صوتَ الوسيم لا يخرُج من زوره، مُتَنَحْنِحًا، يبان العرق ينساب على جبينه، وجهه مِحمرًا يكاد ينفجر من فرط السخونة:

-       أسف، .. زحامٌ خانق،.. تعرفين،.. سامحيني، .. غصب عني.

-       من فضلك.. اهدأ.. حاول أن تتماسك،.. فقط لا تتحرك كثيرًا.

يصل القطار، بهدوءٍ تترنَّح سماء بعد أن عبرت باب القطار الكهربائي المفتوح ذاتيًا، وقفت قدميها لا تكاد تَحمِلنها، لا تنظر وراءها، مضى القطار في لمح البصر، تتحسس ملابسها المُبتلة تشعر بالغلبة وبقهرٍ:

-       ما لي رُحت في اتجاه الرغبة! .. لماذا إذن كان الزواج!؟

عادت لتجلس في العربة الطوافة الناقلة لها من محطة القطار لتدخل بها بهو المعهد صامتة، ترنو في البعيد لتلال الجبل ومياه البحر، تتلاعب أمام عينيها زّخْاتُ مطرٍ مُنسابة على جدارياتِ نفقٍ زُجاجي، يبدو نفق رابط لمحطة قطارات المدينة بمواقف عربات الزائرين قرب البابِ الخلفي للمعهد. تتراقص أمام عينيها آخيلة ما بقيَ في ذاكرتها من صورة الشاب الوسيم: آمعقولٌ غيرَّ متزوج! ما الذي يؤخِّر شابٌ مثله لهذا العمر دون زواج! يبدو في الأربعينيات، وسيمٌ؛ في الاونة الأخيرة كلما سألت شابًا أو فتاة عن أسباب عدم الزواج، قالوا: الشهادة والعمل، تحقيق الذات أهم. فماذا عن تفريغ الشهوة! آنى يتأتى لهم تصريف النار المحبوسة بين الأفخاذ! آلهذا علاقةٌ بما نراه من وهنٍ بادٍ للبشر ومن تراخٍ في العمل! أيكون ذلك الكبت الجارف وراء ازدياد حالات العنف غيرَّ المُبّرَّر اليوم في بلدنا؟ .. هنا تعلق فيفي الراوية بصوتٍ مكتوم:  

-       نعم تغير شكل العنف، .. تبدل سلوك البشر، .. لا أحد يفعل المطلوب منه كما ينبغي؛ .. فالكُلُّ مُتَكدِّرٌ.

تمت