الاختيار الأصعب!

الاختيار الأصعب!

صلاح حسن رشيد /مصر

[email protected]

عندما وُلِدَتْ استبشر أهلها بجمالها الطاغي خيراً، وقالوا أخيراً رزقنا الله صَبيَّةً مثلَ فلقِ الصُّبحِ حُسْناً وزينة! وخوفاً عليها من حسد الحاسدين، حلفت أُمُّها بأغلظ الأيمان، أنها لن تُخْرِجَها من عتبة الدار أبداً!  وحينما جاءتهم العمَّةُ (ورد) للتهنئة، أخبروها أنَّ المولودة بعافيةٍ بعض الشئ؛ لكيلا تراها بعينها الصفراء! ورعايةً لها وحِفظاً من أنظار الحاقدين، ادَّعتْ أُمُّها بين الجيران أنها ماتتْ بعد ولادتها مباشرةً!

وطوال أسبوعٍ كاملٍ، أخذت أمها تُفَكِّر، وتُعاوِد التفكيرَ مِراراً، حتى تختار الاسم المناسبَ لجمالها الفريد! فمن بين الأسماء الكثيرة التي انتقتها أمها، توصَّلتْ في نهاية المطاف لاسم(المي) ليكون جديراً بمولودتها الغالية! وهو الاسم الذي- حسب علمها- لم يُطلَقْ على بنت من قبل!

وقد شُوهِدتْ الأُم ذاهبةً في مطلع النهار خُفيةً لأحد العرّافين؛ لكي يصنع للميِّ حِجاباً يقيها من السوء!

وكانت أمها لا تسمح لها باللعب مع أترابها؛ بل لم تكن تستطيع أن تغفل عينها عنها لحظةً!

وحدث في أحد الأيام أنْ تشاجرتْ الميُّ مع ابنة الجيران، فقامت أمها على الفور بضربها، ومنعتها من الخروج أسبوعاً!

وعندما كثرت المشكلات بين المي وزميلاتها، قرَّرتْ أمها أنْ تتركَ البلدة؛ لتهاجر إلى المدينة، طلباً للسلامة، وخوفاً على ابنتها!

وفي كل هذه الأمور كان الوالد مغلوباً على أمره، لا يقدر أنْ يرفض لزوجه كلاماً!

وبمجرد أنْ شاهد الجيران المي إلاَّ وضربوا أخماساً في أسداس، قائلين باستنكارٍ ولوعة: ولماذا بَناتنُا لَسْنَ مثلَ الميِّ في طلعة وجهها، ونور مُحيّاها؟!

وذات يومٍ، أرادتْ الميُّ اللعبَ مع مَن في سِنِّها؛ فنهرتها أمُّها قائلةً: أنا سألعبُ معكِ!

وبالفعل، شبَّتْ المي، وهي تشعر بالغربة النفسية عمَّن حولها من الأولاد! فلم تتعوَّد على الانطلاق والمرح، والعفوية كالآخرين، ولكنها عاشتْ في سجن أمها، سجن الحب والخوف الكبير!

وهكذا، بمرور الأيام، ازدادت دروس الأُم لابنتها بعدم الاطمئنان لأيِّ إنسان، وبالتوجُّس من الجميع! فازدادتْ الميُّ تقوقعاً على نفسها وجمالها، فلم تعد ترى سوى نفسها، التي قرَّرتها لها أمها!

والغريب، أنَّ الأم قرَّرتْ إلباسَ المي النقاب، وهي بنتُ خمسِ سنين، تحاشياً لها من نظر الناظرين!

فلمّا ذهبت للمدرسة، كانت حديث الناس، إذْ كيف تلبس النقابَ طفلةٌ لا تعرف شيئاً! لدرجة أنَّ مدير المدرسة، أمرها بخلع النقاب في طابور الصباح، فما كان من المي إلاَّ أنْ صاحت في وجهه: أنتَ عدوٌّ للهِ! فقال لها: يا بُنَيَّتي، النقاب ليس لمن في مثل سِنِّك! ففاجأته بالرد السريع: إذنْ أنت من جنود إبليس اللعين! فأصابه الوجوم من قسوة الرد!

وعلى الفور، أمرها بإحضار ولي أمرها!

لكنْ حدثت واقعة طريفة، وغريبة معاً؛ إذ طلبت إحدى المدرسات في الحصَّة الأولى من العام الدراسي، من المي خلعَ النقاب . فما كان من المي إلاَّ الرفض القاطع!

وهنا، سارعت المُدَرِّسة قائلةً: إذن أنتِ تلبسين النقاب، لأنَّ منظركِ غيرُ جميل!

فسارعتْ المي، على غير عادتها، بأنْ ذهبتْ إلى الأستاذة، ووقفتْ إلى جوارها، بكل ثقةٍ، وقد خلعت نِقابَها أمام الجميع!

فأصاب الذهولُ الأستاذةَ، وكلَّ التلميذات، لشدةِ جمال الميِّ، وروعة حُسنهِا، الذي لا يُضاهَى! وأخذنَ جميعاً في النظر لشَعْر المي وشُعورهنَّ، قائلين بكل أسىً: سبحان الله، هذه حورية من الجَنَّة!

وفي طابور اليوم التالي، فوجئ المدير بصراخٍ مُدَوٍّ يعلو أرجاء المدرسة، فانتابه الهلع، وظنَّ أنَّ مصيبةً حلَّتْ بالتلميذات! فأسرع، وقلبه يكاد يقفز من صدره! وبمجرد وصوله أخبرته وكيلة المدرسة قائلةً: إنَّ الجميع، بما فيهنَّ المُدرِّسات يُشاركنَ في العويل، والصُّراخ!

فردَّ المدير بحنقٍ شديد: ولمّ كل هذا؟ وهل حدثتْ مصيبة، لا سمح الله؟

فقالت الوكيلة: لا، ولكنهنَّ في حِدادٍ متواصل، بعدما رأينَ جميعاً جمال المي، وشعرها المنسدل، وحُسنها الذي ليس له شبيهٌ على الإطلاق!

فتعجَّب المدير، وقال: ومَن الميُّ إذن، التي تسبَّبت في كل هذه الكارثة؟

قالت بأسىً شديد: تلميذة جديدة في الصف الأول الابتدائي!

فقال بذهول، وكأنَّ الكلام لا يريد الخروج من فمه، من هول ما سمع: طفلة صغيرة أربكتْ المدرسة! ماذا لو كبرتْ؛ فأصبحتْ في الإعدادية؟

ردَّت الوكيلة على الفور: لا شك أنَّ جميع المدارس ستُعلنُ الإضراب! وستعتكف الطالبات في البيوت، خشيةً من رؤية هذه الفتاة الساحرة!

 وقطعاً ستتسبَّب المي في تشرُّد الطُّلاب، وتَسَرُّبهم من المدارس؛ لرؤية هذه الآية العجيبة من الفتنة والدلال!

فقال المدير، وهولا يكاد يُصَدِّق: سبحان الخالق العظيم، سبحان الخالق العظيم!

وفي اليوم التالي حضرتْ الأُم، وقد انتابتها الهواجس والهموم!

فقالت لنفسها: تُرى، ماذا لو قرَّروا تخييري بين: خلع المي للنقاب، وبين طردها من المدرسة! ماذا أفعل عندئذٍ؟!

وبينا الأُم شاردةٌ في عالمٍ آخر، جاءتها الأستاذةُ، وهي تقول أبشري: لقد قرَّرت المدرسةُ بالإجماع: أنْ تلبس الميُّ النقاب!