خارج خيمة المي!

خارج خيمة المي!

صلاح حسن رشيد /مصر

[email protected]

بعد مشوارٍ طويل، وتعبٍ متواصل، رأيتُ على البعد خيمةً تتلألأ منها الأنوار القدسية، كأنها ملائك الرحمة، تنثر بريقها على من حولها، فتُحيل الدنيا إلى نهارٍ دائم، وخيرٍ قائم! فاشرأبَّتْ نفسي، وصحوتُ من خوفي المُطبِق؛ فتوكَّلتُ على الله، واستجمعتُ قوايَ المُنهكة، حتى اقتربتُ من الخيمة؛ فرأيتُ مجموعة من الرجال، ضِخام الجثة، لا يعرفون إلاَّ لغة الضرب!

فألقيتُ عليهم السلام، فردُّوا بغير اكتراث!

فقلتُ لهم: ابنُ سبيلٍ، يطلب النجدة!

فزمُّوا شِفاهَهم، حتى قال كبيرهم بلا مبالاةٍ: ابحثْ عنه في مكانٍ آخر!

فتعجَّبتُ من صنيعهم، وسوء أخلاقهم! فصِحتُ فيهم بحِدَّةٍ: وهل من صفات العرب خذلان الضيف، وعدم إغاثة الملهوف؟

فلم يرد أحد!       

فَعلَا صوتي، فقلت: عضَّني الظمأ والجوعُ يا قوم!

فتجاهلوني،كما يتجاهل الناسُ ما ليس له قيمة!

وبعد لحظاتٍ استبشرتُ خيراً؛ فقد جاءتهم موائد الطعام الشهي، فتقدَّمتُ لأطردَ عني شبح الجوع؛ فلمّا اقتربتُ أكثر؛ فُوجِئتُ بأحدهم، يحمِلني على عنقه كالريشة، ثمَّ ألقى بي بعيداً على الأرض بكل قوة!

فأصابني الألم في كل أنحاء جسمي، وأخذتُ أبكي من شدة الوجع، ولسعة الجوع!

وما أتذكره أنِّي غِبتُ عن الوعي مدةً طويلة. ولمّا حلَّ الليلُ، لم أقوَ على الحركة؛ فأسلمتُ نفسي لمن يطلبها، وبدأت أُحَوقِلُ، وأُهَلِّلُ، وأذكر الشهادَتَين، راجياً من الله  تعالى غفرانَ ذنبي! ووضعتُ رأسي على حجرٍ ، بانتظار لحظة الوداع!

ولم أشعر إلاَّ بمن يحملني، ويضعني وراءه على حصانه، وبعد فترةٍ غير قصيرةٍ، وجدتني على مقربةٍ من الخيمة، والقوم يُسارعون في إغاثتي، وإطعامي، وتقديم المعونة لي، على وجهٍ غير الوجه الذي قابلوني به!

 وهالني شِدَّةُ خشوعهم في الصلاة، وإكثارهم من قيام الليل، مع البكاء الحار، والدعاء الصادق، وغلبة التسامح عليهم، وهم الرجال الأشداء، الذين أوسعوني ضرباً وسَحلاً من قبل، ثمَّ طردوني حتى لا أدخل الخيمة!

فقلتُ بصوتٍ عالٍ: سبحان الله، هل لهؤلاءِ الناس إلهانِ: إله القوة والبطش، وإله: الرحمة والتقوى! أمْ أنَّ صنيعهم في النهار عكس فعلهم بالليل؟!

فسمعني أحدهم، فَرَقَّ لحالي، وهو يقول: سامحك ربي يا أخانا الكريم!

فرددتُ بألمٍ واستغرابٍ: ولماذا ضربتموني إذن؟ وأنا لم أقترف جُرماً، ولم أرتكب ذنباً؟

فقال، وهو يضحك: إننا مأمورون بذلك يا صاحِ!

فازدادتْ دهشتي، فصِحْتُ به: وهل يتنزَّلُ عليكم جبريل عليه السلام؟

فمال برأسه نحوي، وهو يقول: لا، يا سيدي!

فقلتُ له: فمن أمركم بضربي إذن؟

فقال الحاجب: سيدتي المي!

فقلت على الفور: وكيف عرفتْ بأمري؟ ولماذا أمرتْ بضربي وطردي؟

أجاب الحاجب: ما علينا سوى تنفيذ أمرها!

وبينا أنا حائرٌ في حالي وحالها، إلاَّ رأيتُ بدرَ التمِّ يُنير الدُّجَى مِن حولنا، فقد أطلَّتْ الميُّ برأسها من خيمتها قائلةً: .. وهل أكرمتموه؟ وهل طبَّبتموه؟

فقالوا جميعاً: نعم .. نعم، يا سيدة!

فقالت بابتسامة تلوح مثلَ فلق الصُّبح: الحمد لله، الحمد لله .

ثمُّ أدارتْ ظهرها، ودخلت خيمتها، وهي تقول بحزمٍ:

 فالآن ..الآن – فقط- اطردوه إلى غير رجعة؛ فهو من قومٍ ليسوا من أبناءِ جِلدتنا! لأنه من الذين يسألون الله طلباً للحاجة، وقضاء المصلحة!