عيتيت!

حيدر الحدراوي

[email protected]

يتجول في الشوارع , يتنقل بين حاويات النفايات , يفرغ محتوياتها , يفتش فيها , لعله يجد ما يسد الرمق , كقطعة خبز متعفنة , او بقايا لحم , او حتى عظم قابلا للمضغ , يقلب علب المشروبات الغازية , لعله يحصل على قطرة لا زالت فيها , ويلتفت يمينا ويسارا , خشية هجوم شلة من الاطفال عليه .

لاحظ ان المدرسة فتحت ابوابها , وشرع التلاميذ بالخروج , فتعجل بملئ جيوبه , و حمل ما يمكنه حمله , قبل ان تقع انظار بعض التلاميذ الاشرار عليه , لكنه لم يتعجل بما فيه الكفاية , فلمحه احدهم وصرخ قائلا :

-         عيتيت المجنون ! .

تدفق التلاميذ الاشرار نحوه , وجهوا اليه حجارتهم واي شيء ينفع ان يقذف او يوقع الاذى عليه , فترك كل شيء وهرب , لكنهم لاحقوه بين الازقة والمطبات , يصرخ بأصوات غير مفهومه طالبا النجدة , لكن ما من مغيث , هامّ على وجهه متنقلا لا على التعيين , حتى خرج من المدينة , فتوقف التلاميذ ومن لحق بهم من الصبيان عن ملاحقته .

تمدد وسط الشارع , بين المدينة والغابة , ليستريح قليلا , كان يخشى دخول الغابة , خوفا من الكلاب السائبة او الحيوانات المتوحشة , لم تدم استراحته طويلا , حتى قطعت عليه تلك اللحظات سيارة نقل النفايات , قادمة من الغابة , نهض مسرعا , واستلقى على الرصيف , مشيعا السيارة بأنظاره , فلاحظ انها انعطفت في اتجاه الطمر الصحي , المكان الامثل لديه , الا انه بعيد جدا , لكنه توقف فجأة والتفت نحو الغابة , وتساءل ( ما كانت تفعل سيارة النفايات في الغابة ؟ ) , لابد وان تكون هناك حاويات لم يكن يعلم بها , ولم تتسنى له فرصة تفتيشها , فوثب بنشاط , وتوجه نحو الغابة بشجاعة .

كان الهدوء مطبقا , سوى زقزقة العصافير هنا وهناك , فسار بحذر , حتى لمح احدى الحاويات الكبيرة , اسرع نحوها , وشرع بالتنقيب , فوجد الكثير مما يحلم به هو ومن هو على شاكلته , رمى كل ما لديه وافرغ جيوبه , وشرع بالالتهام وتعبئة الجيوب , حتى شبع , فدخل الغابة ليختبأ بين الاشجار ويستريح , لكنه تساءل عن ( من يرمي النفايات في هذه الحاوية الكبيرة ؟ ) , فقرر الاكتشاف , نهض واكمل سيره بحذر , حتى لاحظ قصرا كبيرا وسط الغابة , عالي الاسوار , محاطا بالحراسة المشددة , ابتعد عن البوابة خشية ان يراه احد , واسترق النظر نحو السور الكبير , كان محاطا بالاسلاك الشائكة , حاول الاقتراب اكثر , لكن الاسلاك كان ممتدة على الارض لمسافة مترين عن السور , فقرر ان يتسلق شجرة ليسترق النظر الى داخل القصر .

شاهد المزيد من الحراس , ينتشرون في زوايا القصر وحدائقه الجميلة , حراس فوق القصر , المزيد من الحراس المدججين بالسلاح عند البوابة , كراج للسيارات الفخمة , نالته الدهشة , وبهره المنظر , فرمى نحوهم عظما كبيرا , لم يصب احدا , لكنه وقع بجوار احدهم , تفاجأ الحراس وتجمهروا حول العظم , ونظروا الى الجهة التي اتى منها , فأتصلوا بالدورية وطلبوا منها ان تجوب الغابة , اسرع رجال الدورية نحو الجهة التي جاء منها العظم , فتشوا كل مكان , بين الاشجار والحشائش , لكنهم لم يعثروا على شيء , فأرسلوا تقريرهم ( لا شيء ) .

لم يعبأ عيتيت المجنون برجال الدورية تحت قدميه , ولم يبال لامرهم , بل اكتفى بمراقبتهم من فوق , حتى رحلوا , لم يمض وقت طويل حتى رمى عظما اخر نحو الحراس , فاستشاطوا غضبا , واعقبه بحجر , سقط على النافذة , محطما الزجاج , فسمع الزعيم الضجة , وامر مرافقيه بأستيضاح الامر :

-         سيدي .. تعرض حراس الجهة الشرقية لعدة مقذوفات ... اثنان منها بعظم ... والثالثة بحجارة حطمت زجاج احدى النوافذ ! .

-         استوضح اكثر من كامرات المراقبة ... وارسلوا الدوريات في الغابة والقوا القبض على الفاعل ! .

لم تسجل كامرات المراقبة اي شيء , فقد كان عيتيت بعيدا عن مرمى عدساتها , جابت دوريات الحراس الغابة يمينا ويسارا , فلم يعثروا على شيء , وتوقف عيتيت من ارسال المزيد من المقذوفات .

سأل الحارس زميله :

-         من يا تره رمى هذه الاشياء ؟ ... طالما وان رجال الدوريات اكدوا انهم لم يعثروا على احد ... فمن قام بذلك ؟ .

-         امر عجيب ... من يجرأ ان يرمي قصر الزعيم بالحجارة ؟ ! .

-         نعم ... لكني اعتقد ان الرامي ليس من البشر ! .

-         من اذا  ؟ .

-         سكان الغابة ! .

-         من هم سكان الغابة ؟ .

-         الجن ! .

حالما سمع الاخر بهذه الكلمة حتى بدأ يرتجف , واسترسل بالتقيؤ , وارتفعت حرارته واحتقن وجهه , فشاهد الحارس الاخر ما اعترى زميله حتى بدأ يرتجف هو الاخر , لكنه اسرع نحو رئيس الحراس , واخبره بالموضوع , فقرر رئيس الحراس ان يغير موقعهما , وجلب حراسا اخرين ليحلا محلهما , لكن الحراس الجدد رفضوا خشية من مواجهة الجن , خصوصا بعد ان شارفت الشمس على المغيب ! .

-         سيدي الزعيم ... ان الحراس يرفضون اداء عملهم في الجهة الشرقية ... بعد اشاعات مؤكدة ان من فعل هذه الفعلة لابد ان يكون من الجن ... والا فلن يجرؤ احد من البشر القيام بذلك ! .

-         اغبياء ... جبناء ... ماذا تقول يا اخرق ... يا احمق ! .

-         سيدي ان الحراس تركوا الجهة الشرقية بلا حراسة ! .

توجه الزعيم برفقه رئيس الحراس الى المكان , رمق الغابات بنظره , وحدق في وجوه الحراس الشاحبة , فتأكد ان الامر جاد , التفت نحو مساعده قائلا :

-         الامر بسيط ... ارسلوا بطلب الساحر ابو دريد ! .

وصل الساحر ابو دريد , وجلس في مواجهة الغابة من داخل القصر , اطلق البخور , وبدأ بتلاوة كلمات غريبة , يقول انها سحرية , تخشاها الجن , وتتزلزل لها قلوب العفاريت , كان عيتيت يسترق النظر للساحر ابو دريد ويحدق فيما يفعل , ففتش جيوبه , واخرج عظما كبيرا , صوبه بدقة نحوه , اصاب المبخرة , وتناثرت محتوياتها , ففزع ابو دريد , وانتفض وافقا يروم الهروب , بينما فزع الحراس لفزعه وكانوا اسرع منه في ذلك ! .

امتعض الزعيم لما جرى , وقرر ان يرسل في طلب كبير السحرة شلهوب , فجاء مسرعا , اتخذ له مكانا في الحديقة , وكان الزعيم والحراس من حوله يراقبونه , اطلق البخور , واخذ يردد تعاويذه , مناديا العفريت خيكان بالحضور , لم يمض وقت طويل , حتى حضر بحجمه الضخم , وهيئته المكفهرة , فرحب به الزعيم ورحب بالزعيم بدوره .

انطلق العفريت خيكان بالبحث عن سكان الغابة المشاكسين , ارتعب عيتيت من ذلك المخلوق المخيف , فأختبأ جيدا بين اغصان الشجرة , حتى اقترب منه اكثر واكثر , فمر العفريت من تحته , جنّ جنون عيتيت وازداد هلعا , وبشكل لا ارادي , ضربه بأخر عظم كان لديه , فشج رأسه , وسال دمه , فأطلق العفريت خيكان صرخة مدوية , اهتزت لها اغصان الاشجار , وجدران القصر , وعاد مسرعا متألما باكيا ليسقط بين يدي شلهوب , انبهر الجميع للمنظر , والتفت شلهوب نحو الزعيم :

-         انصحكم بمغادرة القصر الان ... يبدو ان من في الغابة شيء اكبر مما نتصور ... وبه خطرا كبير ! .

-         لابد انها ارواح اصحاب الارض الذين قتلناهم في مجزرة دامية ! .

فأمر الزعيم بنقل عائلته الى مكان امن , وشرع الحراس بمغادرة القصر مسرعين , لكنهم تركوا البوابة مفتوحة , بينما يراقب عيتيت الامر , ولاحظ ان الجميع قد غادر , فتوجه مسرعا بدوره كي يدخل .

تجول في القصر , عابثا بمحتوياته , تنقل في زواياه وغرفه , حتى دخل المطبخ , فتح الثلاجة , فشاهد ما يسر ناظريه , اسرع في التهام ما يمكن , وافرغ جيوبه , ليملئها مرة اخرى , ثم تناول قطعة كبيرة من اللحم المشوي , واستمر في اكتشافه للقصر , صعد السلم , ودخل في غرفة الزعيم , وجلس على السرير الفخم , قفز فوقه , ثم استلقى ليستسلم لنوم عميق , بعد يوم حافل بالمشاق .

في الصباح , طوقّ رجال الشرطة المكان , واقتحموا القصر , شعر بهم عيتيت واختبأ تحت السرير , فتشوا كل مكان , الا غرفة الزعيم , احتراما له , واكتفوا بالنظر لها من الباب المفتوح , فلم يجدوا شيئا , قرروا مغادرة القصر عند المغيب , حرصا على الارواح .

لم يستسلم الزعيم , واصرّ على استعادة ملكه المغتصب المغصوب , فأخذ يتجول بالقرب من البوابة برفقة عدد كبير من الحراس .

-         يجب ان اضع حدا لهذه المهزلة وبسرعة ! .

حدق في عدد حراسه , واسلحتهم الفتاكة , كل ذلك كان عديم الجدوى , فقرر الاستعانة بصديق , يملك الكثير من الكلاب المتوحشة , سرعان ما حضر ذلك الصديق الوفي , برفقة ثلاثون كلبا متوحشا , اطلقوها في القصر واغلقوا البوابة !.