حصان الإسعاف

حصان الإسعاف

معين رفيق - مشرف مبحث اللغة العربية

مؤلف كتاب "من روائع قصص سرعة البديهة والردود البليغة"

كانت الأخبار تترى عن تزايد جرحى الاشتباكات، وعن موت بعضهم، شعر حميد باهتزاز سيارة الإسعاف على وقع أصوات القذائف المدوّية، والدبّابات المنتشرة، والتي كانت أصوات محركاتها تزأر بلا توقّف، حتى تكاد تصمّ الآذان.

" إنّها تعترض طريقنا مثل جبل حديدي، وتصوّب مدفعها العملاق نحونا!" قال سائق الإسعاف مذعورا من دبّابة ضخمة أمرتهم بالتوقّف، ثمّ راحت تتلوّى مستعرضة عضلاتها الحديدية، وتنفث- مثل تنّين أسطوري- دخاناً كثيفاً حتى غابت عن الرؤيا، ثمّ دارت حول نفسها عدّة مرّات، لتمضغ سيّارة مدنيّة كانت متوقّفة على قارعة الطريق، وتحيلها إلى صفيحة ملتصقة بالأرض.

وسرعان ما وقع انفجار مدوّ ارتجفت له القلوب، فغادر السائق- وبحركة غريزيّة- مسرعا بالسيارة نحو المصابين، وغير آبهٍ بالحاجز العسكري. أحسّ حميد برعشة في جسده: " نعم، أنا الآن خائف، ولكنّي لم أعد ذلك البائس الذي أدمن على المخدّرات، والحياة العابثة".

اهتدت السيارة بعد مشقّة إلى مكان بعض المصابين، ووجد المسعفون أحد الجرحى وقد فارق الحياة، بينما كان الآخر ينزف- منذ أيام- من فخذه، بعد أن مزّقت أوردتها رصاصةٌ متفجّرة ، قدّموا له الإسعاف الممكن، وسأله حميد: "ما اسمك؟"، فأجاب بوهن: "شكري".

 أخذت السيارة تشقّ طريقها كالأفعى التائهة من شوارع المخيم- البائسة- باتجاه المشفى، وقد أقلّت جثّة هامدةً، وجسداً مثخناً بالجراح، واندفعت مولولة بصفيرها، المختلط بأصوات القذائف وصرخات المستغيثين في حارات المخيّم المدمّر، الخالية من الرحمة والأمل.

- "اخرجوا من السيارة" علا صوتٌ مخيفٌ من سمّاعة إحدى الدبّابات الإسرائيلية التي اعترضتهم.

ترجّل الجميعُ من السيارة، وأحاط بهم الجنود، الذين أخرجوا الجسدين الهامدين من سيارة الإسعاف، فأعادوا القتيل، بينما اعتقلوا شكري الجريح، واندفعوا يشتمونه ويركلونه بأرجلهم، فصرخ بوهن، ولكنّ الضرب لم يتوقّف، فلم يستطع الدكتور منجد احتمال هذا المشهد الوحشيّ، واندفع يدافع عنه بكلتا يديه، فانهال عليه الجنود -هو الآخر- بالضّرب، حتى أسقطوه أرضا، مغشيّاً عليه.

وبعد ذلك سُمِح للسيارة بالعبور، فانطلقت متّجهة صوب المشفى تحاول أن تصلها بما تبقّى لديها من جثّة قتيل، وجراح طبيب.

صحا حميد في المشفى وهو يتألّم ويتنهّد، ولا يدري ماذا حدث؟ كانت أطرافه المحترقة ملفوفة بالضمادات، سأل عن الدكتور منجد، وعن زملائه المسعفين، فأُجيب: كلّهم بخير، فلا أحد يريد أن يصعقه بما جرى.

ولكن ما جرى كان فاجعة مأساويّة، فبعد أن ابتعدت سيّارة الإسعاف عن الحاجز العسكري بضعة أمتار فقط، قصفتها إحدى الدبّابات بقذيفة "أنيرجي" حارقة، فشبّت النيران فيها، وصهرتها، فقضى الدكتور منجد على الفور، بينما أُصيب الباقون- بمن فيهم حميد- بحروق مختلفة، أمّا الشهيد الذي كان ينقل في السيّارة، فقد استشهد مرّة ثانية، وأحرقه اللهبُ المشتعل فيها.

التقى شكري بحميد على دوّار الحصان بعد حين، حصان من نوع آخر، طللية أخرى. كان شكري يتوكّأ على عصاه؛ فحين اختُطف من سيّارة الإسعاف، راح الجنود يضربونه محلّ إصابته، وتلكّأوا في إسعافه، وهناك في المشفى، وبعد فوات الأوان، قدّموا له الإسعاف اللازم؛ لقد بتروا رجله من أعلاها!

وقف الناجيان الاثنان يتأمّلان بصمت وذهول الحصان الحديدي، وأخذا يسترجعان- بحسرة كبيرة- القصة الكامنة وراء هذا الرمز، الواقف منتصبا، بينما يكتسي جسمُه لحم سيّارة الإسعاف الشهيدة، وتظهر عليه ألوانها، وقد صنعه أجنبي لديه ضمير حيّ، يريد أن يوثّق من خلاله قصّةَ كارثةِ وبطولة، كارثةٍ تحكي كيف جُنّ المحتلّ الصهيوني، فأشاع الخراب، وكسر قانون الإنسانيّة كجرّة خزفيّة، بلا اكتراث، وبُطولةٍ أصبح معها الدكتور منجد مثلَ " قصبةٍ ثقبتها الرّيحُ فصارت ناياً"!