الشيخ خزعل ونجل السفير

أيهم نور الدين

كنت في الصف الرابع الابتدائي عندما سقط الشاه وبدأ حكم آيات الله  دام ظلهم وبرهانهم وخمسهم وتفخّذهم أجمعين .

أجمل ما في دروس الصف الرابع مادة التربية الوطنية , أوَ لسنا أشبال البعث , ومشروع أسود صغار لذلك المستأسد الذي يحكم دمشق .

في الفصل الأول من ذلك العام الدراسي , لم يكن الخميني قد وصل من باريس بعد , وبالتالي فإن الشاه العميل هو من كان يحكم .

تعاليم البعث وحتميته التاريخية وممانعته تنضح من كل صفحة في المنهاج , فما بالكم بدروس التربية الوطنية .

التباكي على فلسطين وسيناء والجولان ولوائنا السليب شربناه حتى آخر قطرة , أما عربستان , ذلك الأقليم العربي الذي التهمه بكل جشع  أجداد الشاه العميل , فقد أخذ نصيبه كذلك من التباكي .

فصل كامل عن بطولات الشيخ خزعل في سبيل تحرير إقليم عربستان ( الأحواز )  وإعادته لحضن الأمة العربية أثرت بعقلي الصغير , فقد ألهبت داخلي – بعمق - فروسيته واقتحامه عتبات الموت المضمخة بغبار المعارك ورائحة البارود وهو يقود المجاهدين على صهوة جواده العربي الأصيل , لكن الحقد الفارسي , مدعوماً من غربان الليل في الاستخبارات البريطانية سرعان ما أوقف هذا المد العروبي , ثم أغتالت يد الغدر : الشهيد البطل خزعل الكعبي مسدلة الستار على صفحة من أنصع صفحات النضال العربي في سبيل الحرية .

لقد أكد لنا كتاب التربية الوطنية أن سيرة نضال الشيخ خزعل كانت المنارة التي أشعلت لهيب الثورة في الأحواز العربي كله , وأن عربستان ستعود يوماً لحضن الأمة العربية طالما أن كل أحوازي أصيل هو الشيخ الشهيد خزعل .

..

انتصرت ثورة آيات الله ... هلل الرفاق البعثيون وكبّروا لوصول الخميني إلى سدة الحكم , إثرها مباشرةً نشأ ذلك الحلف الصفوي – النصيري الذي مهد لرهن سورية برمتها لصالح قم  فدخل النظام السوري بحلف استراتيجي مع آيات الله ضد عدوهما التقليدي المشترك  " العراق " .

على الفور قام الممانعون العروبيّون بإرسال الشيخ خزعل ونضاله إلى مزبلة التاريخ , وهكذا كان لزاماً علينا خلال الفصل الثاني شتم مشيخات الخليج وصنيعتهم المدعو خزعل الكعبي وهدفه الذي لا يخفى على عاقل : تقسيم المقسم وتجزئة المجزّء لخلق شوكة في خاصرة الدولة الإيرانية المسلمة والصديقة , حيث تعمل الدويلة التي سعى هذا العميل لخلقها على الحدود الشمالية الغربية لإيران كطابور خامس لصالح الإمبريالية العالمية , كما كان علينا أن نشتم – ع البيعة – كامب ديفيد والسادات ومشروع فهد .

...

كان الملك الراحل " فهد " وزيراً لخارجية المملكة العربية السعودية حينها , وتقدم وقتذاك  بمشروع سابق لعصره بعشرين عاماً على الأقل متجاوزاً بهذا كل الحتميات التاريخية وضرورات المرحلة , وهو ما لم يعجب المناضلين في دولة البعث  فبدؤوا بإسقاطه ومشروعه علناً عبر الشعارات البذيئة التي اشتهر بها نظامنا العروبي الممانع .

لم يشفع للرجعية في الخليج , المليارات الأربعة التي تصبها في جيوب الأسد الأب ونظامه التقدمي سنوياً تحت بند " دعم دول المواجهة "  ولا احتضان السعودية لمئات الآف السوريين الذين رفدوا بمليارات الدولارات خزينة الدولة التي أفلستها سياسيات البعث واشتراكيته البغيضة.

الأستاذ – نفسه – الذي دمعت عيناه وهو يحدثنا عن بطولات الشيخ الشهيد خزعل الكعبي في الفصل الأول  هو من كان يشتم العميل المأجور خزعل الكعبي وأسياده في مشيخات الخليج طوال الفصل الثاني .

بدا وكأن ثأراً شخصياً ما  , بين الأستاذ المناضل والعميل خزعل , فقد كان يتشنج وتجحظ عيناه كلما تلفظ باسمه , ويريد أن يغسل لسانه سبع مرات إحداهن بالتراب تطهيراً له من ربق هذا الاسم .

تشنج الأستاذ في إحدى المرات أكثر من أي مرة , حينها بالذات فُتح الباب ليطل منه رأس المدير نصف الأصلع ووراءه تلميذ أنيق الهندام , خجول بعض الشيء  .

تحدث المدير مع الأستاذ قليلاً ثم التفت إلينا قائلاً : هذا زميلكم عبد الرحمن من السعودية , أتى ليتابع دراسته معكم , وقد اخترت له شعبتكم لأنها الأكثر تفوقاً بين الشعب الأخرى .

ثم استدار وخرج تاركاً التلاميذ يتنافسون في تقديم مقاعدهم لعبد الرحمن .

حسم الأستاذ الموضوع بأن أجلسه قرب أيمن , أحكم طلاب صفنا وأكثرهم هدوءاً .

أنقذ حضور عبد الرحمن الشيخ خزعل من مسلسل الردح والشتائم المعتادة .

 أراد الأستاذ استعراض منجزات البعث كلها أمام عبد الرحمن دفعة واحدة  فبدأ بالحديث عن الفقر المدقع في السعودية  وعن شركة آرامكو التي تمتص دماء البشر هناك كأي دراكولا , ثم هاجم مشروع فهد بمفردات لا يصح التفوه بها أمام تلاميذ الصف الرابع الابتدائي .

علائم الحيرة والارتباك وعدم الفهم تلوح على وجه عبد الرحمن , والأستاذ الذي لم يرحمه قيد شعرة كان يزيد العيار تدريجياً ثم تحول ليلعب دور شرلوك هولمز .

استنتج الأستاذ بكل بساطه أن والد عبد الرحمن هو أحد السعوديين الكادحين – ضحايا آرامكو – ولأنه شريف ونزيه فأنه لا يملك قوت يومه ولا يستطيع بالتالي إتمام تعليم ولده في ظل الغلاء الفاحش في السعودية , فلم  يكن أمامه إلا إرساله لسورية الأسد ليعب فيها من العلم المجاني العقائدي ما شاء له أن يعب .

أدرك الأستاذ بعد نصف ساعة من الموشحات أن الوقت قد حان لإثبات صحة فراسته أمامنا , فسأل عبد الرحمن بتعالٍ وأبوّة وعلائم الشفقة تلوح على وجهه : قل لزملائك ماذا يعمل والدك الكادح ولا تخجل , فجميعنا هنا أبناء الكادحين , وأنت يا بني في دولة الكادحين .

رد عبد الرحمن بارتباك : السفير السعودي في دمشق .

بدا وكأن عشرين جنّاً تلبسوا الأستاذ  ... قفز من مكانه نصف متر وقد تلون وجهه بألوان قوس قزح , ثم صرخ بتضرع واستكانة : كرمال الله يا ابني لا تجيب سيرة لأبوك .

ساد الهرج والمرج الصف ورن الجرس , لم يترك الأستاذ لحظة من الفرصة تمر دون تقية , فقد أكد على عبد الرحمن أن ما قاله لا يعدو عن عتاب المحب , فكيف لمثله من البعثيين المناضلين أن ينسوا دور المملكة العربية السعودية في تعزيز ودعم صمود شقيقتها سورية في مواجهة المخطط الصهيوني الشوفيني  .

عبد الرحمن غير المعتاد على هكذا نوع من المصطلحات التقدمية لم يفهم شيئاً من المديح , كما أنه لم يفهم شيئاً من السباب كذلك , وكان هذا لحسن طالع الأستاذ .

..

أتم عبد الرحمن العام الدراسي معنا , وبينما كان زملاؤنا في الصفوف الأخرى يلعنون سنسفيل الشيخ خزعل والسادات ومشروع فهد ومشيخات الخليج , كان صفنا  - بناءً على تعليمات مشددة من شعبة الحزب الأولى - يركز على الدور الريادي الهام للمملكة العربية السعودية في تعزيز صمود شعبنا العربي السوري استعداداً لمعركته المصيرية القادمة مع الكيان الصهيوني .