المثل الذي سجن صديقي ثمانية عشر عاماً

المثل الذي سجن صديقي

ثمانية عشر عاماً

أيهم نور الدين

حبيب صالح معارض علوي , وأحد العلويين القلة الذين وقعّوا على ربيع دمشق في بداية الألفية الثانية .

عرفته صديقاً منذ بداية التسعينيات , وعرفه معظمكم عبر الحلقات المدوية في برنامج فيصل القاسم " ما يطلبه الجمهور " .

حبيب حاصل على الدبلوم في الأدب الانجليزي , يجيد إنجليزية عالم البحار بطلاقة مما أهله ليكون وكيلاً دائماً للعديد من خطوط الملاحة الدولية حتى بعد قرصنة التوكيلات الملاحية على شركات الملاحة الخاصة ومن ضمنها شركة بيت أشرف كنج الجبلاوية ( الأمل للملاحة )  التي كان موظفاً فيها في الثمانينيات .

لفتت حِرَفيّتة أنظار شركة الملاحة اليونانية وشركة الملاحة القبرصية اليونانية وشركة هنجاروكاميون المجرية فأصرت مجتمعة على أن يبقى ابن سربيون النصيري وكيلاً لها حتى في ظل الوكالة الحصرية لشركة التوكيلات الملاحية سيئة السمعة والإدارة .

رضخ البعث ونظامه الاقتصادي المأنتك لضغوط الشركات الدولية فأبقوا على مكتب حبيب شريطة أن ترد جميع البوالص عن طريق التوكيلات الملاحية وأن يتم تسديد حصة التوكيلات الملاحية كاملةً , ثم ليفعلوا ما يشاءُون .

لقد خشي جهابذة الاقتصاد من فرار هذه الشركات باتجاه بيروت التي مزقتها الحرب الأهلية , مما يعني الحد من النفوذ السوري هناك بتأثير رأس المال الغربي , وهكذا فعلوا مع الشركات الأخرى التي أصرت على وكلائها .

كان حبيب رجل أعمال لا بأس به  في عالم البحر المليء بالقراصنة كطبالو " عراب النفايات النووية مع شريكه أحمد عبود " , النزاهة التي يفتقرها عالم البحر كانت موجودة كما يبدو في مكتبه الكائن بشارع الميناء بطرطوس مما جعله يزدهر نسبياً , بل ويتجاوز أحياناً المكاتب الأخرى .

يومها لم يكن محدثو النعمة من أمثال تاجر الآثار والمخدرات وهيب مرعي وأمثاله قد وجدوا بعد .

كان وهيب مرعي حينها ما يزال صواجاً مغموراً يقرقع بمطرقته الهزيلة رفاربف بيك آبات الداتسون 1200 التي أكل الدهر عليها وشرب .

..

قبرص اليونانية التي بدأت تضيق بعمالتها السورية الرخيصة نسبياً , جعلها حلماً لكل قاطني الشريط الساحلي من ضيعة ضايعة وصولاً إلى العريضة .

حينها تعرفت على حبيب صالح لأول مرة .

دلني عليه أحد الأكارم من أهالي مدينتي مقدماً له بالكثير من العبارات الطنانة التي كانت صحيحة في جلها .

فقد كان هذا الحبيب صديقاً حميماً لكل من السفيرين القبرصي واليوناني , وكان يقوم بمساعدة معارفه أحياناً عبر تزكيتهم أمام السفيرين للحصول على فيزا .

كما أن ثقافته تأبى عليه استغلال معرفته تلك للاتجار بالبشر ولولا هذا لجمع الملايين من هذه التجارة الشريفة .

المهم أنني حصلت على تزكية منه لدخول قبرص , وعندما عرضت عليه مالاً ثار بوجهي : وَلَك هنت آبتفهم أنّو ممكن يكون فيه علوي شريف بالدنيا , هالعرصات اللي بالشام خلوا البشر كلها تظن أن العلوي عرصه وتاجر بشر ورقيق أبيض ووصولي لا يخدم حتى أمه ببلاش , روح ولَك عيني جهز سفرتك بهالمصاري ولا عاد تعيدا .. معي هَنَا ع الأقل .

حينها عرفت للمرة الأولى أن هذا الناصري القومي العروبي معارض حتى العظم , ومع ذلك بقيت متشككاً في أنه يمارس علي بعض التقية .. بس تقية شو ؟؟ ما هوه اللي عم يخدمني ببلاش مو أنا , مالذي يجبره على هذه التقية معي , وأنا الذي أحتاجه لا هو .

بلا طول سيرة : هبة سخنة هبة باردة بلشت تاخدني وتجيبني .. سيعتقلونني في المطار لأنني استمعت إليه دون أن أنكر عليه هذا .. هو يختبرني ويختبر ولائي للنظام إذن ............. بس ولاء  شو ؟؟ أنا طول عمري مالي بهالأفلام كلها .

كدت ألغي سفري لولا تلبسني عقل الرحمن : إن كانوا سيعتقلونني فهم قادرون على اعتقالي في أي مكان على أرض هذه الجمهورية البعثية الطيبة , لأضرب هالطينة بالحيط لكن .

سافرت قبرص .. لم يقل لي أحد سواء في مطار دمشق أو لارنكا محلى الكحل بعينك ... لم يبلغ عني حبيب صالح إذن , هل من المعقول أن يكون علوي بهذا المنطق وهذه الطيبة .

شعرت بالخجل لسوء ظني بهذا الإنسان , لكن إرثي الشعبي عن الفستيك , والذي يمتد لعصر السلطان سليم الثاني وربما ابن تيمية ظل يعن ببالي بين الفينة والأخرى .. ربما سيعتقلوني بعد عودتي , وسيبظظونني حينها كل قرش وفرته في غربتي ليكون الخازوق خازقين .

مالنا بكل الطويل العريض , عدت إلى أرض الوطن بعد انتهاء غربتي القصيرة وأنا أنتظر سحبي من المطار لتذوق حنية أحد الأفرع وربما جميعها وهو ما لم يحصل أيضاً .

كنت قد أحضرت ساعة جلدية جميلة , سوداء اللون .. قررت النزول إلى مكتب الأستاذ حبيب في طرطوس بأقرب فرصة لأهدائها له وهذا ما كان .

لم تعجبه الساعة على ما يبدو , أو اعتبرها خدمة مقابل خدمة فاعتذر عن قبولها بأدب , كان ابنه حاضراً فعلق بالقول : بيجوز لو كانت بنية كان أخدها , بيي بيعشق رب البني , ولو كان بيطلع بإيده يصبغ جلده بني ما قصّر .

حينها انتبهت : الأرض بلاطها بني , الجدران والسقف من مشتقات البني , الأثاث بني بدون استثناء , أما ثياب الأستاذ حبيب فهى بنية بالكامل , من الحذاء والجورب حتى الجاكيت , وانا أقسم قياساً لما رأيت أن لباسه الداخلي بني أيضاً .

بعدها توطدت علاقتي به , وأصبح يزورني في منزلي الصغير كلما جاء إلى جبلة محضراً معه الكثير من الكتب السياسية الممنوعة التي يحضني على الاطلاع عليها , مستبدلاً إياها بالجديد كلما أتى في زيارة أخرى .

وفي منتصف التسعينات غاب دفعة واحدة , حسبته مريضاً فسألت عنه أصدقائه الذين أصبحوا أصدقائي كذلك ففوجئت أنه في السجن بسبب زواج بشرى الأسد من آصف شوكت .

حسبت الأستاذ أحمد الذي نقل لي الخبر يمزح : بربك أستاذ أحمد شو الموضوع " استعدت لعنة حوري ومصطفى جمعة الشاهدين على قران الأب من أنيسة "  ليش حبيب كان احد الشهود على كتب كتاب العاشقة من سبع البرمبو ؟

-  شهود شو ولو أيهم , هاد يا أفندي كان حاضر بلبنان مؤتمر لدعم العراق مع المعارض الأردني ليث شبيلات وسألوه ع المنبر : صحيح بشرى الأسد من يومين راحت شريده مع واحد أسمه آصف شوكت , فرد صاحبك : ليش شو عملت غير ما عملت أمها , ما سمعتوا بالمتل اللي بيقول : طب الجرة ع تما بتطلع البنت لأمّا .

 وكأنه جماعة غازي كنعان كانوا حاضرين , قاموا حملوه موجوداً ع عنجر ومن هنيك ع فرع فلسطين سكارسه , بس لا تخاف عليه , بيدبر حاله , ميلاتي متل علي دوبا , والميلاتية ما رح يتركوه .

بس كأنه الميلاتيه تركوه أو ما قدروا يساووا له شي لأن جريمة " التطاول على ابنة الرب وزوجته " أكبر من كل بيت دوبا .

نام حبيب خمس سنوات بتهمة نشر الشائعات المغرضة التي تؤدي إلى توهين عزيمة الأمة , حينها فقط أدركت أن شبق أنيسة وابنتها من صلب صمود وممانعة أمتنا المجيدة .

خرج حبيب بعد خمس سنوات عجاف ليوقع بيان ربيع دمشق ويعود إلى السجن بخمس سنوات أخرى لتوهينه عزيمة الأمة مرة ثانية .

أفرج عنه لشهرين ليعود إلى السجن بعدها لثلاث سنوات إثر مقالين له بموقع إيلاف عن فساد العائلة الحاكمة في سوريا .

خرج من السجن عام 2008 ليجد  أن المخابرات ساعدت أحد أقاربه من الدرجة الأولى في الحصول على قروض تجارية واستثمارية باسمه تزيد قيمتها على 3.5 مليون ليرة سورية , كانت القروض محكمة ومبكلة , فوجد نفسه دون مكتب أو بيت أو ..... قرش , والدولة تطالبه بتسديد 3.5 مليون ليرة سورية فقط لا غير .

حينذاك زارني في بيتي بجبلة , وكانت هى المرة الأخيرة التي ألتقيهِ فيها .

 كان قد أدمن حتى النخاع توهين عزيمة الأمة .

 تغدينا فاصولياء يابسة بائتة وأرزاً بائتاً  أيضاً بعد أن رفض بشدة تناول البرغل مبرراً هذا بأرث طويل من القهر عاشه الجبل العلوي .

سألته حينها  : ما الذي تنوي فعله ؟؟ فقال سأكتب ضدهم في بعض الصحف , وقد أسافر إلى قبرص بمعونة بعض الأصدقاء الذين لم يغيرهم الزمن , وسأسعى هناك لتأسيس مجلة أو محطة فضائية معارضة تتمتع بالمصداقية .

يومها  قال لي : هل تعرف يا أيهم أنني انسلخت عن علويتي منذ زمن طويل .

أجبته : أعرف هذا .

فقال : ولكنك لا تعرف لماذا أنا معارض , فرددت : أحب أن أسمع .

قال : أنا معارض لأنهم يريدون منا عبادة شخص أسمه حافظ الأسد , ولو كنت أريد عبادة الأشخاص لبقيت على علويتي وعبدت علي بن أبي طالب , فهو والله أولى بالعبادة من حافظ الأسد .

..

خرج حبيب من منزلي  في  5 / 5 / 2008 على أن يعود في اليوم التالي , لكنه لم يعد أبداُ , ثم عرفت من شريط الأخبار على قناة الجزيرة أنه في السجن .

بقى حبيب حبيساً لغاية 13 / 11 / 2011 حيث أفرج عنه لإشراكه في هيئة التنسيق .. أسعده الحظ بوجود مؤتمر مأنتك لهؤلاء الدمى في لبنان فخرج معهم و فرّ من هناك إلى ألمانيا حيث يقيم الآن .