عازف على أوتار الليل ...!!

عازف على أوتار الليل ...!!

لبنى بوعجاج

لطالما أحب ذلك المكان، كرسي خشبي مهترئ، يظهر أنه لازم مكانه لسنين عديدة، يتوسط ممرا طويلا مليئا بالمصابيح، ويطل على أمواج البحر الزرقاء، اللون الأزرق.. معشوقه الأبدي..يحب رؤية الأزرق لكنه يعشق أن يُرى بالأسود..خصوصا في ديسمبر..شهر البدايات والنهايات، قصته مع ديسمبر والأسود استثنائية .. ففي ديسمبر بدأ حياته ولطالما أنهى حكاياته في ديسمبر، لذلك أسماه شهر البدايات والنهايات.

في ديسمبر تختفي أحزانه خلف لون لباسه الغامق متجاهلا أن هذا الاختفاء قد يكون حقيقة تعر من الأقنعة...ففي ديسمبر يرتدي ما يلائم مشاعره، ديسمبر..شهر الحنين واللهفة..شهر يختزل خيبات السنة بأكملها ... يلفك ببروده.

فإن كان ديسمبر شهر بداياته ونهاياته فالأسود موطنه، قصة عشقه له لا تنتهي، وجد فيه الأمن الذي فقده في وطنه، فالأسود جداره الحامي.. يحتمي به من قسوة الآخرين، انتقاداتهم، نظراتهم، قسوة مجتمع لم يرحمه ولم يرحم تضحياته من أجله، مجتمع افتخر به قبل ديسمبرين وتخلى عنه في ذات الشهر بعد أن أخد أغلى ما لديه في حرب خاسرة لا غاية منها ولم يجن منها سوى الخسارة ولم يقطف منها غير الخيبات، خسر عائلته، زوجته، طفليه، عينيه.. ربح كل شيء في ديسمبر لكنه ضرب موعدا مع الخسارة في ديسمبر.

يتذكر حكاياته في هذا المكان.. كيف كان يرغم والده ويستخدم جميع الوسائل من بكاء إلى صراخ ليصل الأمر أحيانا إلى إضراب عن الطعام كي يأتي به إلى هذا الكرسي الخشبي، كم كان يخشى أن تطاله الحرب، شهد هذا المكان على أجمل ذكرياته من طفولته، أول خطواته في الحياة، إلى آخر شبابه، حمل عنه هموما بحجم الجبال، غريب أن يكون صديقه الوحيد " كرسي خشبي " ؟، لا ليس غريبا فالحرب التهمت أصدقائه، أطفاله وأحلامه، لم تترك له شيئا سوى لحن حزين يزين أجواء ليله، بالرغم من أنه لم يعد يفرق بين ليله ونهاره بعد أن فقد حبيبتيه "عينيه"، يشعر بروحانية غريبة هذا اليوم .. الثالت والعشرين من ديسمبر.. آخر ساعات الليل.. على كرسيه الخشبي بزيه الأسود وأمام معشوقه الأزرق .. يناجي أطيافا بصمت مراحل حياته .. يخبرها عن أيامه .. أحلامه المحطمة .. مشاريعه المؤجلة إلى مالانهاية .. الأفراح المبتورة .. الوطن الذي تخلى عنه .. يخبرهم عن "عازف على أوتار الليل".