أحلام الغد المهزوم

عزة مختار

تري هل كان حلما ؟

هل كان وهما ؟

هل كان رغبة دفينة تجسدت في هيئة رجل جاء ليحمل معه كل الأحزان وكل الهموم وكل سنوات الانتظار ليلقي بها في بحر الظلمات بينما هو بالقرب مني .

ليس معقولا أن يكون أيا من ذاك ، فليس هناك حلم نلمسه بأيدينا ونضمه بجوانحنا ، وليس هناك وهم نلمح الحنان والحب في عينيه ، وليس هناك رغبة مكبوتة تتجسد في دفء يضمنا وأمان نشعر به

ليس هناك احتمال إلا أن يكون حقيقة ، حقيقة ربما تكون قد حدثت في عالم غير عالمنا وزمان غير زماننا ، لكنها بالتأكيد حقيقة أروع من الخيال

لم اعتد يوما أن يهاتفني أحد أو يطرق بابي وقد مرت سنوات طوال وأنا علي هذا الحال ، أحيانا كنت أشعر بالملل لكن الأيام تداوي مالا يداويه الأطباء فمنذ فراق والدي ثم زوجي وأنا هكذا وحدي ، أروح وأجيء ،  أعمل وأدرس ، أمرض وأصح ، أخرج للتنزه وامكث في البيت لأيام طوال دون أن أري الشمس ، كل هذا اعتدته فلم تعد تحزنني الوحدة ، ولم يعد يؤلمني المرض ، ولم تعد الحياة تغريني ، وجدت كل الناس يحملون هاتفا محمولا في أيديهم فقلت لنفسي ولماذا لا يكون لي هاتفا مثلهم ، ابتسمت لنفسي وأنا أنتقي من بين كل المعروض وأقول ومن سيتصل علي ؟ لكنني اقتنيت واحدا من أحدث الأنواع أسوة بمن أراهم في كل مكان ، كنت أتخذه صديقا لي ،انظر فيه كل برهة وكأنني سوف أجد به ما يسعدني ويجبر كسري ، وكأنني انتظر رسالة من مجهول أو اتصال من قريب يربطني بالدنيا وبالأحياء ، لكنه لم يحدث

أحيانا كثيرة بينما أنا في سيارة تقلني إلي عملي ، أو في متجر أستكمل منه بعض الأشياء التي ربما أكون لست في حاجة إليها فأستمع إلي رنات هواتف عديدة فأسرع بالبحث داخل حقيبتي عن هاتفي وانظر فيه بالرغم من أن مصدر الصوت ليس عندي ، وبرغم أنني واثقة أنه ليس أنا ، إلا أنني في كل مرة أفعل نفس الفعل دون شعور مني ودون تفكير ، يتكرر نفس الفعل واكرر نفس رد الفعل .

كنت هكذا دائما ، لكن اليوم كان يوما مختلفا ، منذ بدايته ، رسائل غريبة علي هاتفي ، ظننتها في البداية علي سبيل الخطأ ، لكنها مع تكرارها وجدت اسمي يتردد بها ، إذن فهي لي أنا ، فليس معقولا أن يكون الخطأ في الرقم لتكون صاحبته أيضا باسمي ، قرأت الرسالة الأولي  لتزداد دقات قلبي وترتعش يداي ويكاد يسقط الهاتف من بين بينهما ، شعرت بتدافع الدم حتى كأنه لهب شديد يكاد يحرق وجهي ، قرأتها مرمرا حتى حفظتها عن ظهر قلب ، أغمض عيناي لأتخيل كلماتها أمامي ، ووددت لو كانت لي ، تخيلتها لي ، وتخيلت صاحبها وهو يوجه لي تلك الكلمات ، يبتسم لي ويطيل النظر إلي لتلتقي النظرات ، فأهيم فيها وأغرق ، تخيلته وكأنني أعرفه منذ سنوات طويلة ، تبادلت معه الحوارات ، وحكيت له عن تاريخي كله ، تاريخي الخالي من الأحداث ، صفحات فارغة انتظرت طويلا من يشاركني كتابتها .

أنظر إلي الكلمات المرسومة أمامي كعقد ثمين أو كورود منظومة في كلمات رقيقة ، حتى أني تخيلتها كائن رائع تنظر إلي وتبتسم وتشير لي أن انتظري فما زال هناك الكثير .

ورغم أني حفظتها جيدا إلا أن النظر إليها فيه متعة غريبة ، تملأ قلبي بالحب والسعادة والامتنان وتشبعه بحنان لم تشعره من قبل ، حنان يعطي قبل أن يسأل ماذا سيأخذ ، حنان يريد أن يحطم السد الذي يعترض طريقه ليفيض علي العالم كله  .

دقائق معدودة عشت فيها عمر بأكمله ، عمر من المشاعر المتدفقة ، وقصة حب تتسابق مع أعظم الحكايات لتتخطاها إلي حيث مقدمة عالم الرومانسية والجمال ، دقائق تمر في عالم غريب من أمواج ساحرة لست تشعر فيها ومعها سوي بالهيام والرضي ، تمر تلك الدقائق في غياب من نوبات عقلية ساخرة  تظهر برهات قليلة لتبتسم في عجب ، كيف أيها القلب تصدق ما هو ليس لك ، إنها مجرد رسالة أرسلت عن طريق الخطأ ، فلا أحد يعرفك ، ولا احد يهتم بك ، ولا يوجد بها ما يدل علي أنها لك أنت دون غيرك ، يسخر العقل بينما يشتاط القلب غضبا ، ليصارع ذلك الحديث الرديء الذي يخرجنا مما نحن فيه في عاملنا الجديد .

يصدق القلب الأسطورة ويعيش فيها وكأنها له هو ، وكأنه يعيش فيها منذ زمن بعيد ، فها هو يخاطب حبيبه ، وها هو يفرح معه ويغضب معه ويتحاور معه ويعود إليه . يصدق القلب ويعيش ، ويخر العقل ويحاول السيطرة إلي أن أتت الرسالة الثانية ، ليس معقولا أن تكون مصادفة هي أيضا ، رسالة ملتهبة نصها " نعم أريدك أنت ، أنت دون غيرك ، فأنت من انتظرتها طويلا وها هو لساني ينطلق أخيرا بما يجول في قلبي لسنوات طوال "  .

دارت بي الدنيا ، ازددت رعشة وخوفا علي خوفي ، شعرت بدوار أكثر ، فحتي الآن يسير الأمر في حدود عقلي وقلبي فقط ، أما هذا الوافد المجهول ، فلا .

لم أستطع أن أتمالك نفسي منذ أول وهلة للرسالة الثانية ، إن الحكاية لم تعد مجرد حلم في طي قلبي وعقلي

بل إنها تعدت ذلك ليكون هناك إنسان حقيقي ، وأنا لم يحدث معي ذلك أبدا من قبل ، لقد قضيت كل عمري في أحلام نوم ويقظة ، عشت حياتي آلاف المرات ، وأحببت آلاف المرات وتزوجت وأنجبت وغضبت وتصالحت وخرجت وجبت العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ، فرحت بأحلامي وضجرت منها واشتقت إليها ، كنت كلما يضيق بي الحال أهرع إلي النوم لأحلم ، فأنام قريرة العين بعدما يهدهدني ذلك الزوج الذي يملأ حياتي سعادة وحبا وحنانا ، لكن الآن وقد أصبح كيانا ماذا افعل ؟ كيف أتصرف ؟ كيف وكيف وكيف .

لم أنتظر طويلا ولم يمهلني الطارق الجديد لقد اتبع الرسالة الثانية برسالة أخري ثالثة ورابعة ، ثم بطلب موعد للقاء في المكان الذي احدده والموعد الذي اختاره . تلك هي الصدمة الكبرى ، أنا التي كنت أفتح الباب  كل فترة حتى أشعر أنني بين الأحياء أشاهد الناس من بعيد . كانت تمر علي بعض البائعات الجائلات لأشتري منهن بعض الأشياء فكنت أشتري ، ليس رغبة في الشراء أو أنني في حاجة لتلك السلعة ، وإنما لأنني أريد منهن أن يعدن كي يطرقن بابي ,  مرات ومرات عديدة أفتعل الحديث مع الأخريات من الجيران كي أتعرف عليهن ولكنهن جميعا وحين يعرفن ظروفي أجدهن وقد مسهن مسا من الشيطان يبتعدن واحة تلو الأخرى ، حتى زهدت في معرفتهن جميعا ، ولم أعد أطمح إليها ولم تعد تعنيني نظراتهن ، أو همساتهن تحذر إحداهن الأخرى من الاقتراب من تلك التي مات عنها زوجها ومات آخر أفراد عائلتها وهو والدها الذي ضحت بآخر من تقدم إليها كي تراعي ذلك الوالد الضعيف الذي أوهنه المرض .

وطنت نفسي علي أنني سأعيش وحدي وسوف يكون ذلك حالي إلي أن ألقي الله ، ولم يعد الأمر يهمني أو يشغلني مثلما كان في بداية الأمر ، عشت هكذا ولم يعد يعنيني أن أكمل حياتي هكذا .

والآن يأتي كل ما يقلب حياتي رأسا علي عقب ، ثم لماذا اهتم للأمر كل هذا الاهتمام  إنها مجرد مجموعة من الرسائل ، ومهما كان صاحبها فأنا لا اعرفه ، لأنني في الأصل لا اعرف احد يمكن أن يكتب مثل هذا الكلام ، وبرغم أنني قضيت جل عمري في انتظار كلمات كتلك الكلمات إلا أنني كثيرا ما سمعتها في أحلامي ، وسمعت ما هو اكبر منها وأرق وأعمق ، فكيف تؤثر علي مثل تلك الكلمات وتهزني بهذا الشكل الكبير ، لكنني لن أصغي ، كل ما علي أن افعله هو ألا أصغي لتلك النداءات ، حتى نداءات قلبي ، سوف أصم أذني عنها  فقد اعتدت حياتي كما هي ولن يغيرها أي طارئ مهما كان نوعه ، حتى ولو كنت قد اشتقت إليه عمري الذي ضاع وعمري القادم ، لقد طويت هذه الصفحة منذ زمن بعيد ، وما أحلامي إلا مجرد مناوشات قلبية مع عقلي كي يفكر أو يغير مساره ، لكن أبدا لن يحدث ، لقد سمحت لهذا القلب بان يحلم ويروح ويجيء ويسافر المسافات كي يلتقي بمن يريد ، لكنني أبدا لن اسمح بأن يتعدي حدود ذلك .

مر يوم ويوم ويوم وأنا في ذلك الصراع الداخلي حتى خمد الصراع بمرور الوقت  ، بالتأكيد هي دعابة ثقيلة من احدهم أو إحداهن ، تريد أن تسخر مني وتنظر ماذا يكون رد فعلي ، لكنه فعلا عمل غير أخلاقي  إذ كيف يجرؤ أحدهم أن يفعل ذلك ، كيف يتلاعب بمشاعر إنسانة بهذا الشكل اللئيم .

صوت الهاتف يلح في الطلب وأصوات الغضب بداخلها تعلو علي صوت الهاتف المصر علي أن تجيب ـ إنه نفس الصراع الذي دوما تعيش فيه نفس الصراع ـ

يصمت الهاتف ثم أسمع جرس آخر ، إنه الباب هذه المرة ،ماله ذلك القادم لا يصبر فيقرع الباب مرة ثم الجرس مرات

من ؟ من علي الباب ؟ يأتيني صوت طفل صغير مسرعا في كلامه أنا ، معي رسالة لك ، توجهت ناحية الباب لأري من هذا الطفل وما هي الرسالة وممن ، أفتح الباب ببطء شديد  لأجد طفلا صغيرا يحمل بين يديه ظرفا ملونا صغيرا ، ليقول لي خذي هذا انه لك  ترك الرسالة وهرب سريعا ويبدو أن في يده بعض النقود ، لم التفت إليه ووجهت نظري إلي تلك الرسالة في يدي أقلب فيها النظر ثم بين يدي ظاهرها وبطنها وكأنني سوف أري من تلك النظرات وتلك الحركات ما بداخلها من كلمات ، وكانت تلك هي المرة الأولي في حياتي التي أستلم فيها رسالة بهذا الشكل  .

ترددت وأنا أفتحها وكأن بها ما سيؤذيني لأجد بها رسالة معطرة رقيقة  مسطر بها كلمات قليلة لم أستطع معها أن أقاوم دموعي كلمات تقرأ ما بداخلي وتجيبه بمنتهي السلاسة ، تبحث عما في قلبي وعما يجول بخاطري  وعن جروحي فتداويها دون أن أطلب ، كلمات تستقر بوجداني دون دعوة مني وكأنها صاحبة مكان ، صاحبة القلب والروح والنفس معا  ، ليست غريبة عن مسمعي ، وليست غريبة عن مرآي ، كلمات تحسستها فوجدتها كائنا حيا موجودا أمامي ألمسه بيدي وبكياني لأجدها دافئة دفء الحياة وحية حياة الملائكة  . أتمعن النظر في الكلمة الأولي ومن فرط رقتها لم أستطع الانتقال إلي الكلمة الأخرى إلا بجهد وإلحاح من عقلي لمعرفة المزيد ، لأجد عيني تعود إليها من جديد " حبيبتي " ، لم أقرأها بعيني ، وإنما سمعت جرسها في أذني يتردد في قلبي ووجداني ، " حبيبتي " تراءت أمام عيني زهورا عبقة مختلفة الشكل واللون والرائحة  وتتراقص مع لحنها المسموع والذي ينطلق منها حرفا حرفا ، أقرأ ثم أعود إليها وكأنني عطشي زمن بعيد وهذا سقاؤها " حبيبتي كيف استطعت كل هذا السنوات أن أصبر علي الابتعاد عنك ،  كيف تحملت سهر الليالي الطوال ، وكل ليلة أقرر أنها سوف تكون الأخيرة وأنني غدا سأعترف لك واقترب منك وأزيح بيدي كل تلك الحواجز التي تبعد بيننا . أقرر في ليال كثيرة ، لكنني في الصباح يتملكني الخجل منك والخوف من صدودك ، ثم الخوف عليك ، نعم الخوف عليك مني ومن مشاعري التي بلغت مدي لا يتحمله بشر ، لكنني اليوم حقا ما عدت أطيق إخفاء سر قلبي ، وسر روحي التي تعلقت بك سنوات رغما عني  ورغما عن كل الظروف التي تحيط بنا ، أحببتك أنت دون غيرك ،  كنت أراكي تروحين وتجيئين أمامي  تسيرين وكأنك لست من عالمنا ، غائبة عنا  فينا ولست منا أحيانا كثيرة تنتابني إرادة أن استوقفك ولا أتركك وحدك أبدا ، كنت اصرخ بداخلي من يعطيها الأمان ، ثم أجد تلك الثورة العارمة في قلبي : لن يكون سواك .

أحببت فيك الخوف الذي يجعلك تسيرين خافضة العينين مرتعشة الكلمات مكسورة الصوت ، أحببت فيك الضعف الذي يضعف أمامه أي قوي ، أحببت فيك رحمة توزعيها علي الأطفال شريطة ألا يراك أحد من الكبار ، أحببت فيك أنت ، وأحببت فيك أنا ، نعم أنا ، فقد رأيت فيك ملامحي ، رأيت فيك أخلاقي ، رأيت طيبتي ولوني ، رأيت طموحي وعذاباتي وآلامي ، رأيتك أنا فأحببتني فيك وأحببتك في ، انتظرت طويلا خوفا من أن تحكمي علي بالنهاية فآثرت أن أكون القريب البعيد ، أنتظرك حين تعبرين الطريق ذهابا إلي عملك وعودة منه ، حسبت الأيام برؤيتي لكي وضبطت ساعاتي علي موعدك ، وربطت عمري برؤيتك وارتبطت أيامي بأيامك ،  رأيت فيك عالمي الذي أحببته وغدي الذي انتظرته وعمري الذي أجلته .

فهل تقبلين ما تبقي لدي من عمر يكون طوع أمرك ، تقبلين أن تكوني المستقبل لي ولك بعدما كنتي الماضي لي دوني معك ؟ ، هل تقبلين إنقاذ من احبك وعاش العمر ينتظر تلك اللحظات التي تجودي بها بكلمة نعم ؟

هل تقبلين ؟

لم أستطع إلا أن اتكئ علي أريكة بجواري قبل أن أسقط علي الأرض الصلبة الباردة ، تدافعت دموعي تباعا لتسبق إلي وجهي كي يفيق من سكرة وقع الكلمات عليه ، وما أجدني إلا وقد أفقت علي خطاب أضمه ضمة الأم لوليدها ووحيدها  وأنا في صباح يوم جديد .

علي غير عادتي استيقظت مبكرة جدا ، سعيدة للغاية ، نشيطة بطريقة غير عادية ، أريد أن اغني وأن أملأ الدنيا فرحا وسرور وأن أوزع ما بي من سعادة علي العالم أجمع تتنامي تلك السعادة حين أنهي عمل ثم أذهب سريعا إلي حجرتي حيث الرسالة التي غيرت مجري تفكيري وأحيت القلب الذي طالما ظننت انه قد مات منذ زمن  ، أحيت مشاعر كنت احسبها غير موجودة عندي وأنها قد تلاشت مع من مات وذابت مع الأحداث لتصبح ذكري مع الذكريات ، أحيتني تلك الرسالة ، فكيف لا أعود إليها استقي منها ماء الحياة في كل لحظة ، أشمها واحتضنها وانظر إليها في رفق كمن تنظر وود وحب ، أحببتها ككائن بشري غال عندي أريد أن أمنحه كل ما تحمله المرأة من عواطف رقيقة تحملها بين أضلعها عمرها كله لذلك الرجل الذي سوف يحيي كل ما بها .

يمر الوقت وأنا علي ذلك الحال سريعا ، حتى يبطئ شيئا فشيئا ، ببطيء حتى يكاد أن يتوقف ، ولست أدري سر ذلك التحول في حالتي ، من الفرح الشديد إلي ذلك الهم الذي يتسرب رويدا إلي قلبي ليصير بعد وقت عبوسا وثقلا كبيرا علي قلبي ، وتهدأ الفرحة حتى تكاد أن تكون قد ماتت لتتبدل حزنا بقدوم ذلك الوقت الذي كنت انتظره وأنا لا أدري ، ذلك الوقت هو موعد قدوم تلك الرسالة إلي ، وكأنني قد ظننت أنه سيأتي فيها ، نعم كنت أنتظره هو في تلك المرة أن يأتي ويطرق بابي لكن الوقت مر ولم يطرق الباب ، ولم تأتني منه رسالة ، انقبض قلبي حزنت ، ثم غضبت ، ثم كرهته ، نعم أحسست من فرط شوقي إليه أنني سوف أنني يجب علي البحث عنه الآن فعسي أن يكون قد وقع له مكروه وأنا لا احتمل أن يحدث له شيء ، شعرت بموجات من الجنون تجتاحني ، تهزني ، تعصر قلبي من شدة الشوق إليه والي كلماته والي لمسته التي أظن أنني لن احتملها من شدة رغبتي فيها  ، يكر الوقت بطيئا بطء الكابوس المرعب حين يسيطر عليك في نومك فيريك العذاب بألوانه دون أن تملك أن تدفع عنك شره أو طغيانه  ، أنتظر وانتظر وانتظر ، في لحظة تمر أمل ذلك الانتظار ، وفي لحظة أخري يتملكني القلق ، ولحظة ثالثة أعود لأتساءل : هل هو وهم أم حقيقة ؟

حتى الانتظار لم أكن افهم له سببا ، فماذا انتظر ؟ هل انتظر رسالة توضح لي من هو وماذا يريد مني ؟ أم انتظره هو كي  يجيب علي تساؤلاتي الحائرة ، كي يجيب قلبي ويريحه من حيرته ، لم أكن أتوقع أبدا ماذا انتظر ، مر الوقت بمعاناة شديدة في انتظار رسالة جديدة ، إلي أن دق جرس الباب لتتعالي دقات قلبي ويرتعش جسدي كله ولا تكاد قدمي تحملني ، أردت أن أطير إلي الباب لأفتحه وأتلقى الرسالة الجديدة ، لكن الخطوات الثقيلة التي حالت بيني وبين ذلك حتى أظن انه قد مر دهي علي تلك الخطوات بيني وبين الباب ، حاولت أن أسرع لكن قلبي الذي كاد أن يتوقف عطلني قليلا وخطواتي المرتبكة عطلتني أكثر وروحي تحاول أن تتجاوز كل هذا إليه ، وصلت إلي الباب لتمتد يدي إليه لتفتحه وقد عزمت أن أعانق الطفل الذي سيأتي بالرسالة هذه المرة ولن اتركه حتى يعترف لي بمن أرسله ، وفتحت الباب لأجد الواقف عليه ليس طفلا ، وإنما رجل ، رجل كامل الرجولة ، يكبرني ربما ببضع سنوات بما يظهر علي وجهه من خطوط خطها الزمن ليميز بينه وبين من هو في بداية حياته ، كي أراه جيدا يجب علي أن ارفع رأسي قليلا ، لا استطيع وصفه أكثر من ذلك لان عيني لم تري أكثر من ذلك بعد أن أفقت من المفاجأة بعد أن القي السلام علي ، قلت له أهلا وسهلا ، حضرتك ماذا تريد ؟ أجاب بصوت منخفض ألم تصلك رسائلي ؟ لم استطع الرد ، وإنما اكتفيت بمجرد إشارة من يدي حتى أنا  لم ادري معناها ، هل أدعوه للدخول ، هل أظهر له غضبي ، هل اظهر له سعادتي ، هل يشعر هو بمدي القلق الذي يعترني الآن ، هل وهل إلي أن قطع الصمت الذي استمر دقائق كالسنوات الثقال ، من رهبة الموقف الذي أمر به للمرة الأولي في حياتي ، وما عدت ادري كيف أتصرف في الموقف إلي أن تحدث هو : لا استطيع الدخول وأنت وحدك ، ولا تستطيعين الخروج معي كذلك ، وأنا لا اقبل لي ولا لك أن يحدث ذلك ، فهل تتزوجيني ؟ هكذا قالها بكل وضوح وبمنتهي السرعة ، وعلي الباب ، تلفت يمنة ويسرة وكأنني ابحث عن عيون الناس التي تنتظر الهم بالخطأ حتى تتحدث عنه وتنشره ،  نظرت إليه وأنا في قمة العجب والدهشة وقد زال بعض الخوف والقلق والتوتر وتحول إلي إحساس بالعجب ، نظرت إليه ولم أجدني إلا وأنا اضحك بصورة غير طبيعية وأنا انظر حولي ، ماذا تقول ؟ تتزوجني ؟ كررها ، نعم هلي تقبلين بي زوجا ، توقفت ضحكاتي أيضا من شدة التعجب ، وكيف لي أن أوافق هكذا دون أن أعرفك ، أنا حتى لا اعرف اسمك ، استمر في نفس الخط في الحديث وبنفس الثقة ، أنا من أرسلت لك الرسائل ، أنا من أحببتك سنوات طويلة وانتظرت إلي اليوم حتى اطلب منك هذا الطلب الذي ما عدت استطيع إخفاؤه أكثر من ذلك ، أنا من رأيتك سنوات تمرين علي كل يوم ثم الآن تقولين من أنت ؟ أنا لا أعرفك ؟ أما أنا فأعرفك جيدا ، أنا من أرادك دون أن ينطق بكلمة خوفا عليك وخوفا من أن تصديني فأخسرك ، استمعت له ، قلبي الخائف اطمئن ، وعقلي الحائر يقول لي كفانا وحدة وشعور بالمرارة من الدنيا ومن فيها ، كفانا ما نحن فيه فالجنون كاد يصاحبنا في ليلنا ونهارنا ، اقبليه فماذا ستخسرين ، اقبليه فنحن في حاجة إليه ، مر الوقت ربما ساعة ، ربما أكثر ، ربما اقل ، لكن بعد مرور الساعة احمر الوجه خجلا بعد تحديد موعد الزواج ، وبعد أن تحدثنا في كل شيء عن المعوقات ، وعن نظرات الناس وكلامهم ، وعن الحرب التي ستشن ، وعن الأمل في أحلام الغد التي عشتها في خيالي مجرد أحلام  وظننتها أنها لا تحقق أبدا ، أحلام الغد ، وفي الموعد المنتظر وجدت أنها استيقظت من نومة طويلة لا تدري كم من الوقت فيها قد نامت ، والهاتف في يدها وورقة بيضاء كانت قد سطرت بها كلمة " حبيبتي "  قبل أن تنام.