اللحظة الرابعة... لحظة فقدان الذاكرة!

اللحظة الرابعة... لحظة فقدان الذاكرة!

عبد الفتاح وأوراق التفاح...

جمال الحنصالي

ضربة البداية

 بمشقة الأنْفس واصل، السيد "بوبكر" رجل الأمن ذو القامة الطويلة، المشي صُحبة رفيقيه الأستاذ "حسن" المحامي و"إبراهيم" صاحب المقشدة.. تابع الرجال الثلاثة المشي السريع مراوغين أشجار التفاح في اتجاه الغابة التي تحضن تلك البلدة الصغيرة كأمّ رؤوم..

 المشي، رياضةٌ وقع الاختيار عليها من قبل الأصدقاء الثلاثة بعد نقاش طويل دار بينهم، ليتفق الأصدقاء على المشي نظرا لسنّهم المتقدم، والخاسر سيدفع ثمن كأسي عصير التفاح الأخضر.

المحامي..

 كان لاعب كرة يد قبل أن يتزوج بفتاة تنحدر من البلدة ذاتها منذ سنتين تقريبا، البلدة التي عشق هدوءها الجميل ومناظرها الأخاذة... تَرك مدينته الأصلية وفريقه، أولا؛ من أجل الفتاة التي فرضت عليه الزواج عوض الرفقة المجانية والماجنة، وثانيا؛ من أجل الاستمتاع بطقس البلدة المعروف بالاعتدال وواديها المشهور الذي يقسمها نصفين.. وأشياء أخرى كثيرة كان بالأمس القريب يستمتع بالنظر إليها واكتشافها من خلال نافذة الإغاثة وهو على متن الحافلة حين كان طالبا جامعيا.. سَكنت فكرة الاستقرار بهذه البلدة بعقله وقلبه، وفَعلها، رغم أنه يعلم أنّ مستقبله المهني والرياضي سيعرفان الانتكاسة، مع ذلك، ركب موج هواه متجاهلا نصيحة أمّه "رقية".

السيد "بوبكر"

 كان جناحا أيسر سريع في فريق معروف في الدرجة الثانية لكرة القدم سنوات الثمانينيات، بَصق على الحكم، في إحدى المباريات الودية، فطرده رئيس النادي. ومنذ ذلك الحادث طلّق لعبة كرة القدم والتحق بنادي الضباط على عكس رغبة والده "الحاج عمر"، الذي كان يريده أن يُصبح مهندسا معماريا ك "سعيد" ابن عمته. غير أن المهندس الشاب هاجر صوب الدانمارك إلى يومنا هذا.. ومع ذلك حاكت الظروف نسيج حكاية أخرى غير متوقعة، فالكابتن "بوبكر" آنذاك، كان يفكر في الانتقام من رئيس النادي، ولحسن حظه، يوم تخرّجه، وبِرُتْبة مشرفةٍ، كان ذاته يوم حفل تأبين رئيس النادي الرياضي السيد الرضواني.

 قضى سنوات في الخدمة، قبل أن يتم ترحيله إلى هذه البلدة منذ سنة ونصف، لأنه ملّ تفاصيل الحياة الرتيبة بالمدينة، هكذا كان يجيب من سأله، لكن القضية أكبر من ذلك على ما يبدو....

صاحب المقشدة

 لاعلاقة له بالرياضة أساسا، حتى مشاهدة المباريات على شاشة تلفازه ذات الأربعة عشر بوصة، لم يكن يجد الوقت الكفاية لذلك، كان يجد نفسه بين مطرقة مشاهدة التلفاز وسندان مراقبة دُرْج "الكنطوار" حيث الدراهم تنام على وريقات من فئة الخمسين والمائة درهم. زوجته وأطفاله السبعة والمقشدة.. مثلث تستحوذ أضلاعه على اهتماماته، فيختزل يومه المُضني والطويل في رحلة ذهاب وإياب سرمديين بين الربح والخسارة !

دقائق قبل وقوع الكارثة..

 تزعّم "إبراهيم" الكوكبة، رغم أن الجلباب الصوفي الرمادي اللون كان يعيق حركة رجليه، تاركا وراءه الشرطي ببذلته الفستقية اللون والمحامي بقبعته البيضاء وحذائه المتميز. التفت "إبراهيم" خلفه ليجد أن الفرق بينه وبينهما عشرة أو أحد عشر مترا تقريبا، وضع يديه المرتجفتين الحمراوتين على جدع شجرة، ودفن رأسه بين كتفيه.. لقد كانت فرصة ذهبية لالتقاط الأنفاس، ونزْع شوكة تغلغلت في حذاءه المصنوع من عجلات الجرّار ضاربةً في عمق أخمص قدمه اليسرى. رغم كل ذلك، استطاع الفوز بالسباق..

 وهو يستعدّ للاستهزاء بالغريبين وأصحاب الدار في نفس الوقت على إثر هزيمتهما، دغدغته قطرة مطر غليظة أرسلتها مُزنة غاضبة أخذت تتلوّن بالرمادي شيئا فشيئا، تسلّلتْ القطرة المائية عبر فتحة بين عنقه المتسخ وجلبابه الواسع.. رفع رأسه إلى السماء، وقلبه يخفق بلا انتظام.. هو ابن المنطقة وُلد وترعرع بها، يحفظ عن ظهر قلب تفاصيلها فِتْرا فِترا، طبيعتها وطقسها لا تخفى عنه أسرارهما.. فجأة، لملم الرجل جنبات جلبابه حتى برزت بطنه المتدلية أعلى سرواله الأرقش، وصاح مفزوعا:

-         "الشاف" "الشاف".. أستااااذ ... عدا أدراجكما بسرعة، أرجوكما لا تتابعا السير إلى أعلى الجبل، لقد تغير الجو وتلبدت السماء بالغيوم... أشم رائحة تنذر بفيضان وعواصف رعدية... اهربا بأقصى سرعة.. أنا قادم..

 زواج زَخّة المطر الغاضبة بأديم الأرض اليابسة ونقعها المغبون، أخبر "إبراهيم" بنبإ غير سار، قد لا يفهم المحامي تفاصيل قضيته كما سيعجز السيد "بوبكر" عن فك ألغازه الغامضة.

بدون تردد

-         "با إبراهيم" لا تحاول الإفلات من قبضة الهزيمة المرتقبة، لقد علمتني أمي رقية، وأنا أحترم نصائحها، كيف أنتصر على الظروف المفاجئة، فما بالك بسباق مشْي عادي.

 هذا كان رد المحامي وهو يلهث من شدة التعب.

-         "سي إبراهيم"، من عادتي أنني لا أتسرع في اتخاذ القرارات الحاسمة، فلا تلعب لعبة أخرى غير المشي الذي اتفقنا عليه، أتريد إخافة رجل من واجبه حماية البشر من هذا الإحساس.

 كذلك أجاب السيد "بوبكر" مبتسما بصعوبة واضعا يده على قلبه ... والإرهاق تسرب إلى جوفه.

 في الوقت الذي كان صاحب المقشدة جديّا ماسحا الهزل من قاموس مفرداته التي اشتهر بها، يستعد لشرح الموقف الحرج الذي ينتظرهم، تصدعت صفحة السماء برقا شديدا تلاه مطر طوفاني ورياح هوجاء أنشأت تقتلع الأشجار والأحجار.. تشكلت الأوحال في رمشة عين من تحت الرجال. وبدون تردد.. صاح الجميع:

-         النجدة.. النجدة !!

 غير الأصدقاء نمط الرياضة من مشي إلى هرولة، منطلقين كالسهام إلى السفح..

عبد الفتاح .. الضحية

 الأمطار ظلت وفية لهطولها الغزير، والرياح صارت أقوى وأقوى صاحبتها عواصف، فعُزفت سمفونية الموت.. الوادي الجميل استيقظ من سباته العميق، وقرر اصطحاب كل شيء يجده أمامه، بعد صيام طويل أحسّ بالجوع الشديد، التهم الأشجار والأحجار حتى أجسادا آدمية قرر ضمها إلى اللائحة.

 تفاجأ الأصدقاء الثلاثة، وهم في طريقهم إلى العودة للديار مفزوعين، بشاب في الثلاثين من العمر مطلي بالأوحال، مغروس جسده على جانب الوادي الهائج، مرتطم بصخرة أبت إلا إنقاذه من موت محقّق، لكن شريطة دفع ضريبة الجروح والكدمات وغياب الذاكرة..

 حاول السيد "بوبكر" إخراج هاتفه النقال من جيب بذلته الرياضية من نوع "أديداس" لكن الجيب تمزق، وأعطى للهاتف إجازة إلى الأبد بدون مرتب.. آه لقد فُقد الجهاز الذي يربط الخيال بالواقع.

 تقدم المحامي بخطى بطيئة من الضحية، وفكره يأتي ويغيب، متردد، خائف، قلق، حزين، كل الأحاسيس البشرية اجتمعت في لقاء فريد من نوعه بجوف هذا المحامي الناجح، لكنه أخيرا، ولأول مرة قرر عدم المجازفة.

 نظر "إبراهيم" يمينا ويسارا لحس شاربه كمش عينيه، ثم نطق "لاحولا قواتا بله"، واندفع سِجاح وجه الشاب المتألم، ووضع سبابته على وداجه، وتنفس الصعداء بعد أن أحس به ينبض.

 رد المحامي ضاحكا:

-         لا نقول "لاحولا قواتا بله" بل نقول "لا حول ولا قوة إلا بالله"

 عقّب "إبراهيم" والغضب تملك جوارحه:

-         ليس الوقت مناسبا لمحاربة الأمية، هذه ليست مشكلتي ولا مشكلة من علموني.. لنساعد هذا الشاب أولا، لننقد حياته، ربما المجتمع في أمس الحاجة إليه...

 تمكّن "إبراهيم" من حمل الشّاب ككيس رمل، بعد أن تأكدوا من أن روحه مازالت لم تفسخ عقدها مع جسده المجروح.

 ما إن بلغوا باب المستشفى حتى انقشعت الغيوم الداكنة وانكسرت زفرات الرياح الشديدة، وبرزت أشعة برتقالية اللون محتشمة من خلف سحب مشتتة على صفحة السماء، وعادت زقزقة طيور الصّعْوة المهاجرة...

الذاكرة المفقودة

 خرجت الممرضة كريمة من غرفة المستعجلات وقد اعتلت حمرة وجنتيها، لا ندري إن كانت حمرة خجل أو عصبية العمل في ظروف صعبة.. توجهت بسرعة في اتجاه الأصدقاء الثلاثة الجالسين على معقد خشبي خارج مبنى المستشفى. ما إن وصلت حتى وقف "إبراهيم" يفتش في جيوب سرواله المبلل عن قطعة نقدية منسية في زاوية من زوايا الجيب اليتيم، في الوقت الذي أمسك السيد "بوبكر" بمعصمه، وقد عض شفته السفلى مرسلة إليه رسالة خطيرة، بينما الأستاذ "حسن" يحك بسبابته خده الأيسر رافعا حاجبيه إلى أعلى، مؤيدا رأي رجل الأمن..

 صاحت كريمة في وجههم قائلة:

-         من يعرف منكم هذا الشاب؟ أجيبوني يا سادة.

 تبادل الثلاثة النظرات وردوا دفعا واحدة:

-         لا نعرفه يا سيدتي !!!!

 جلستِ الممرضة جلسة ملاكم نال منه التعب في الجولة الأخيرة، كأنها تعرف الشاب منذ أمد، كأن علاقة قرابة تربط بينهما، وإذا لم يكن كذلك، فمن الصعب تصديق أن حالتها النفسية نابعة من ضميرها المهني، على الأقل في موقف مشابه كهذا الذي تعيشه وهي في بداية مشوارها كممرضة.

 أخبرت الأصدقاء الثلاثة أن الشاب فقد ذاكرته، وهو في حاجة إلى صدمة معاكسة تعيد إلى شريط ذكرياته الألوان والحركات والرسومات التي أُتلفت..

أوراق التفاح الأخضر .. عودة الذاكرة

 احتار الجميع في أمر الشاب، فهو لا يحمل أية وثيقة رسمية تكشف عن هويته، إلا بعض البقع الحمراء التي علقت بجيب قميصه المخطط، اتضح أنها ليست بقع دم بل بقع حبر قلم جاف، وهذا ما أكده الدكتور أحمد.

 بعد مرور يومين، قرّر الأصدقاء الثلاثة زيارة الشاب، اقتنى له "إبراهيم" نصف كيلوغرام تفاحا أخضر، كان من المفروض أن يصير عصير نخب الفوز بسباق المشي، لكن "إبراهيم" رأى أنه من غير اللائق زيارة المريض صفر اليدين.

 ولج "إبراهيم" والسيد "بوبكر" والمحامي "حسن" الغرفة حيث المرضى كانوا راقدين، لم يجدوا الشاب في سريره، استغربوا.. وسألوا ممرضة يبدو أنها التحقتْ للتو بالمستشفى، أخبرتهم أن زميلتها كريمة رافقته إلى الحديقة الخلفية ليشم هواء نقيا..

 توجهوا على وجه السرعة إلى المكان المقصود، كان الشاب واقفا وجها لوجه مع الممرضة في حالة لا يمكن وصفها إلا بالرومانسية الاستشفائية.

 فجأة، صاح الشاب بشكل هستيري، وهو ينظر إلى أوراق التفاح ظاهرة من خلال الكيس البلاستيكي الذي حمله "إبراهيم":

-         نعم، إنها أوراق التفاح... يا ويلي، ماذا حدث لي؟... أنا عبد الفتاح، تذكرت.. اسمي عبد الفتاح.. أنا أستاذ للتعليم الابتدائي...خرجت أبحث عن أوراق التفاح لإنجاز درس في مادة النشاط العلمي لتلامذتي الصغار.. آه، ترى ماذا وقع لهم، اعطوني هاتفا من فضلكم أريد الاتصال بالمدير، وزوجتي أيضا.. آه، تذكرت نسيت البراد على النار .....

الحلقة الأخيرة

قرر الأستاذ عبد الفتاح أن يكافئ "إبراهيم".. بأن يقدم له ساعات إضافية لكن لمحو الأمية وليس لشيء آخر.

رحل المحامي صحبة زوجته إلى مدينته الأصلية.. أصبح مدربا لفريق كرة اليد... صار يداوم على زيارة قبر أمه "رقية"

الشاف "بوبكر" ترقى وأصبح مؤطرا بنادي الضباط.. استلم سجل أسماء المتدربين.. وأول اسم على رأس اللائحة كان الرضواني خليل..

 كريمة فقدت الثقة في الرجال ....