اللحظة الثالثة... لحظة صمت!

اللحظة الثالثة... لحظة صمت!

صمت الكرسي

جمال الحنصالي

... كان يوما قائظا من أيام تموز،

كان يوما حارا قَهر الشاب فما بالك بالعجوز.

 لم يجدْ "رحّال" ذو الخمسة وخمسين سنة بُدّا في اللعب مع أشعة الشمس؛ لُعبة "الكاش كاش" التي كان يتقنها وهو تلميذ في السنة الرابعة ابتدائي، كان يتقنها لأنّ الساحة لا حدود لها، تمتدّ إلى الدوار المتاخم للمدرسة، وسي "هشام" المعلم كان يأخذ الوقت الكافي لشرب سيجارته خلف الجحرة الدراسية المتآكل سقفها، يقعد الأُرْبعاَء ويراقب في صمت تلك الأجساد الناعمة الملفوفة في ثياب مزركشة الألوان ومرقعة تحمل أكوام قشّ وأغصان لوز يابسة.. كأنها شجيرات سنديان تسير الواحدة تلو الأخرى في رحلة سرمدية دائمة.

 أشعة الشمس كانت فعلا لاذعة وحارقة، والرجل قد لفع الشيب رأسه ولم يعد في أوائل شبابه، لم يعد يقوى على تحمّل حر الصيف خصوصا في مدينة تعج بالناس الذاهبين منهم والآيبين، مدينة لا تنام الليل، تعيش وسط ضجيج المنبهات التي تصدر من الشاحنات والحافلات والسيارات.. هذه الآلات الحديدية المدهشة نسقيها مياها باهضة الثمن فتعطينا دخانا يلوث أعز ما نملك..

 يفتش "رحال" عن أقرب حنفية ليشرب الماء، وما يكاد يستريح حتى يعاود الكرّة، يُبلل العرقية ثم يضعها مجددا على رأسه، فيتابع السير على الأقدام بخطى وئيدة. استغربَ لحاله؛ كيف فقد بهذه السهولة لياقته البدينة، بعد أن كان بالأمس القريب رجلا مفتول العضلات ذا بنية صلدة كالصخر... بدأ يفكر في كل ذلك حتى كاد ينسى لماذا هو أصلا جاء إلى هذه المدينة؟

-    "آه، تذكرتُ.. أنا في حاجة إلى زيارة المكتب الوطني للكهرباء، لكنْ.. أين بطاقة التعبئة؟ هذا المساء سأستقبل عائلة الحاج "بلعيد" وزوجته تحب مشاهدة فيلم عمر المختار، وجهاز الفيديو الرقمي لا يعمل بدون كهرباء .. أين وضعتُ هذه البطاقة اللعينة؟ نعم، وضعتها في جيب سروالي "القندريسي" رفقة السُّبْحة.. هكذا أخبرتني زوجتي، تقول: أنت عادة لا تنسى السُّبحة، ضعِ البطاقة بجانبها في الجيب. نعم تذكرت..."

 دسّ "رحال" يده الخشنة مباشرة في الجيب يمينا وتنفس الصعداء لما عثر على تلك البطاقة الملونة والسحرية، فأخذها بعناية بين يديه كعصفور مجروح، يعلم علم اليقين أنها مهمة أكثر من أي نوع من أنواع البطائق الأخرى التي سمّنت محفظة نقوده الجلدية. هي بطاقة بحجم كَسرة خبز لكنها تأخذ "رحال" إلى عالم الأضواء والأنوار وتفتح عينيه على مدى الألوان...

 أخذ "رحال" يحكّ بعض الزغيبات البيضاء التي رفضت أن تتخلى عن ذقنه لترافق صديقاتها المنتحرات، أنشأ يفكر ويفكر في حساب رياضي عسير، معادلة بمجهولين، عشاء فاخر على حساب مشاهدة الفيلم أو عشاء متواضع نظير الاستمتاع بأحداث الفيلم الشهير، بلغة الأرقام؛ كيلو (إلا؟) غراما لحم بقر وتعبئة بقيمة خمسين درهما تكفي لخمسة وعشرين يوما.. أو نصف كيلوغرام لحم دجاج وبطاقة مائة درهم تمتد إلى أواسط الشهر الثامن حيث عرس فاطمة مقرر ...؟؟؟

 وقع "رحال" في حيص بيص، فانصاع جسده المنهك أخيرا لقرار دماغه، فاستسلم جالسا على كرسي خشبي متهشم نصفه، كان الوحيد الصالح للجلوس، في مكان كان مقررا أن يتحول إلى حديقة عمومية، لكن..

 جلس "رحال" ويده اليسرى تخنق البطاقة، أما اليمنى فتسمح قطرات العرق التي تكتلت على شكل فقاعات مجهرية على جبينه.

 الساعة كانت تشير إلى الواحدة وخمسة وأربعين دقيقة، تفاجأ "رحال" كيف أنه لم يسمع آذان صلاة الظهر وهو على بعد خطوات فقط من المسجد الكبير ! لم يترك فرصة للشيطان كي يستثيره همزه، همّ بالوقوف مجددا، شعر بقوة الشباب عائدة إلى مدائن إحساسه، هكذا يحس كلما أراد ملاقاة من ذرأه وأنشأه في أحسن صورة... إنه غذاء روحي لا يباع في المتاجر الفاخرة ولا في الأسواق الأسبوعية.. إنه غذاء أشبه بحقنة "بوحمرون" .. مع الأسف، لم تعد هذه الحقنة متوفرة، لأن تاريخ صلاحيتها انتهى منذ أواخر التسعينات من القرن الفائت !

 ... وفي لحظة حاسمة، رفع "رحال" يديه مستعدا لأداء الصلاة، تفاجأ بإنسانة مقبلة في اتجاهه، بهّج الله وجهها فكاد يرسل الأنوار؛ عينان بنيتان تغرقان في دموع تستعد للانهمار، وشفة سفلية مرتعدة تتأهب لإطلاق سراح صرخة من خلف الأسرار، وشعرٍ مضفر حريري.. إنسانة آية في الجمال تُبهر العين فلا تملّ من الإبصار. جسد ممشوق ملفوف في فستان منقط بالأبيض والأسود وتنورة أروجوانية...

 جلس "رحال" وعلامات استفهام كثيرة تحوم حوله، تسلل شيء كالسحر إلى أعماقه وومض في أغواره كالضوء، أيقظ هذا الشيء مراهقا كان يسكن هذا العجوز بين قوسين. جلس "رحال" وهو في حالة انبهار وخوف شديدين.. جلس والمرأة بجانبه، كتفها على بعد فِتْرٍ من كتفه، لجّت في البكاء وقد لفت رضيعها في قطعة قماش أبيض مربعة الشكل...

 أدام "رحال" النظر إلى هذه السيدة، واحتار في أمرها وأخذ يسأل.. فقط نفسه في صمت:

-    كثيرات ينتظرن مولودا بشغف كبير، وهذه المرأة كرمها الله بابن وسيم، فلماذ البكاء؟

-    كثيرات ينفقن أموالا طائلة للحصول على قد ممشوق وعيون بنية حتى ولو كانت بلاستيكية ووجه بلا تجاعيد، وهذه المرأة وهبها الله الجمال الطبيعي الأخاذ، فلماذ البكاء؟

-    كثيرون يبحثون عن زوجة حسناء، يبحثون عنها في كل الأمكنة وفي جميع الأزمنة، فلماذا انكسر الضلع الثالث من مثلث أسرة قد تكون سعيدة؟

 أسئلة تتطاير في فكر "رحال" كما تتطاير حساباته للبطاقة الكهربائية ووجبة العشاء، لكن هذه المرّة معادلة بمجاهيل متعددة، البحث عن الحلّ عذاب عذب !

 بقي "رحال" منبهرا متسمرا بمحاذاة المرأة والرضيع الذي كان لا يكف عن الصراخ، ذكره بحفيده "موسى" الذي مات قبل أن يصل إلى المستشفى، بسبب بطء بغل الجارة "عائشة" الذي أنهكه العمل بالبيدر طوال ذاك النهار الذي لن ينساه الحصادون آنذاك.

 أغمض "رحال" عينيه اتقاء شعاع الشمس التي استرسلت في الإشعاع، راح يفكّر في جمال المرأة الخيالي ومصير الرضيع الحقيقي..

الثالثة إلا ربع... تنهيدة رقيقة

الخامسة وخمس وعشرون دقيقة... شخير خفيف

السابعة مساء.. تفوه عميق

 استيقظ "رحال" على نغمات "الراب" التي أزعجته، نظر حوله لم يجدْ إلا تلميذات لفظتهن إعدادية بئيسة قرب المسجد الكبير، يرقصن ملوحات بوزرهن الوردية والبيضاء، إنه تمرين تطبيقي نوع من "اليوغا" المتوحشة قبل الدخول إلى المنازل.. أو الزنزانات المقرفة.. كما يحلو لهن وصفها..

لم يجدْ "رحال" المرأة والرضيع، عاش لحظة حب صامتة تقاسم أسرارها مع الكرسي الخشبي، وقف بصعوبة وهو يتأفف.. خطا بعض الخطوات.. ثم سمع صوتا أنثويا رقيقا من خلفه، لم يستطع الاستدارة لسببين؛ الأول لأن رقبته توجعه من نوم خاطئ، والثاني لأنه كان يمنّي النفس أن يكون تنبؤه سليما في محله.. لكن..

-    سيدي ... سيدي.. خذ سُبحتك.. لقد نسيتها !!

-    إنك تشبه "عمر المختار"

وانفجرت البنت الصغيرة ضاحكة.........