آخر شفطة

آخر شفطة

محمد الخليلي

[email protected]

حظر عليه أهله وذووه تعاطي الدخان الذي استمرأ عليه ما يقارب من أربعة عقود لأن الطبيب المعالج قال لهم سيقتله التدخين عاجلاً أم آجلاً ، سيما وأنه يعاني من مرض السرطان  المنتشر في جسمه انتشار النار في الهشيم .

كان لابد له من أن يتحايل على أهله وأولاده فيخرج من البيت بحجة التنفس فيقف على باب المنزل الخارجي ليشحذ من المارة سيجارة أو اثنتين .

ينهره كل من يعلم بحاله هذه رغم أن الناس الذين لايعرفون كنه وخطورة مرضه يعطونه مايريد من شدة إلحاحه عليهم ، فيدفع بكرسيه المتحرك إلى داخل البيت بصعوبة بالغة وهو يكاد أن يختنق بعد أن يكون قد شرب سيجارة أو أكثر .

ما أن يدخل البيت ،  يُسمع سعاله من المدخل فيهرع إليه الجميع يقرعونه ويتوعدونه قائلين له لن نذهب بك إلى المستشفى حتى لو مت خنقاً لأنك تنتحر بيديك ، إلا ابنه الأوسط يحنو عليه ويكفكف دموعه خشية أن يراه أهله قائلا لأبيه : لاعليك إن لزم الأمر لاسمح الله فلن أتركك ومرضك العضال ولو كنتَ المتسبب بتفاقمه ؛ فهو يعلم أن محاكمته العقلية لم تعد تسعفه فهو يتصرف كالأطفال أو قل أقل منهم ، والمثل يقول إذا أخذ ماأوهب سقط ما أوجب . ثم كيف يحاسب ابنٌ أباه حتى وإن كان مخطئاً ، فالأب عُرفاً لايُحاسب ، بل يجب ان يُنصح برفق ولين ، فكيف إن كان مريضاً جسمياً ، ثم هذا السقام أطار لبَّه ؟!؟

كثيراً مااختصم عبدو الابن الأوسط مع أخيه الأكبر وغيره من أفراد العائلة حول هذه المسألة ، فينقسم أهل البيت إلى فريقين : أول معارض وهم الأغلبية ، وآخر مؤيد  له وهي أخته الكبرى فحسب ، فيحمد الله  في سره أن قيَّض الله ولو شخصاً واحدا في هذه الحياة يشاطره فيما يعتقد أنه صواب .

مرت الأيام والشهور وأبو مصطفى يتنهز الفرص بين الفينة والأخرى كلما لاحت سنحة كي يشحذ من هذا أوذاك ممن يمرون أمام حديقة منزله لفافة تبغ أو أكثر . يسترق السمع وقد أصبح ذا حس مرهف بعد ابتلائه بالسقم الخبيث  ، وينظر من طرف خفيٍّ ، فإن لم يرَ أحداً يرقبه انسلَّ لخارج البيت وأطلق العنان لبسماته التي تشوبها ضحكات هستيرية غير منطيقة . يمرّ الكثير بقربه ؛ منهم من يكتفي بمبادلته الابتسامة بأخرى ، وآخرون يقفون معه هنيهة ثم يمضون إلى طريقهم قائلين : اللهم اشفه يارب . ولكن لابد أن يلقى من يتعاطف مع سحنته الملائكية المحببة وهو يؤشر لهم بأصابعه قاصداً لفافة خبيثة ؛ فهو قد فقد النطق منذ ما ينوف عن سنة بسبب ضغط الكتل السرطانية في دماغه على مركز الكلام  . يؤشر لهم بكلتا يديه ويردف بابتسامة عريضة ثم بإلحاح مستجدياً عطفاً دخانياً قاتلاً ، ولا يدخل البيت إلا وقد قنص فريسة من هذا أو ذاك .

كان يوماً شتويا شديد البرودة ولكنه كان يحسّ بحرارة عالية تعمر جسمه ، فخرج من البيت كاشفاً صدره وهو يتدحرج على عجلتين دائريتين قاصداً فريسة جديدة .

كان عدنان ( أبو مصطفى )على موعد مع المستشفى ساعتئذٍ : صدرٌ عار من أي لباس في يوم بارد مكفهر ، والغنيمة يومها علبة سجائر ناقصة لفافة واحدة فقط ، فقد مرَّ به غريب عن الحيِّ لايعرف كنه مرضه فعطف عليه بحتفٍ معجل ، فعدنان لم يطلب منه غير سيجارة واحدة ، ولكن الرجل من شدة حدبه عليه أعطاه تسعة عشر .قبَّل أبو مصطفى كلتا يدي الغريب وصدح بضحاته الهستيرية فرجَّت أركان الشارع  بصدى ضحكه المجلجل .  هرب إلى ركن قريب وأشعل اللفافة الأولى ولم يطفئها بل أشعل بها الثانية ثم الثالثة فالرابعة وهكذا حتى أغمي عليه فنقله من يعرفه من الجيران إلى البيت ومنه إلى مستشفى البشير بعمَّان ومنه إلى (القرافة)  ؛ فقد لبث في المشفى بضعاً وعشرين يوماً يتنفس عبر الأجهزة الاصطناعية  وهو طريح قسم العناية المركزة مغمىً عليه إلى أن وافته المنيَّة وقد حقق الـُمنيه بتدخين علبة سجائر شبه كاملة .

رحمك الله ياأبا مصطفى وغفر لك فقد صبرَ عليك السقمُ سنة ونيفاً ، وعاجلتَ موتك بسمِّ التدخين ، ولكنْ لعل المولى يصفح عنك لخفة دمك وعقلك.