فنجان كهوة

فنجان كهوة

محمد الخليلي

[email protected]

أقسمُ بالله العظيم إلاَّ تدفنوه في مقبرة عائلتنا في ناعور ، فقد أضفناه حياً ولانقبل إلا أن يُدفن مع آبائنا وأجدادنا ، يكفيكم أنكم هاجرتم بدينكم وفررتم بأعراضكم من أن ينهشها شبيحة الأسد . وطفق أبو علي العجرمي يردد أغلظ الأيمن كي نقبل دفن ميتنا أبي مصطفى القصاب في مقبرة آل العجارمة في عمَّان ، ويضيف حلَّ بنا حياً فأهلا ، ومات فنجعل له ترابنا سهلا .

كان يوما غزير المطر صباح  الخميس من نهاية الشهر الأول لسنة 2013 ومع ذلك انهمك اثنان من فتيان عائلة المساعفة في حفر القبر رغم البرد والمطر الشديدين .

رحمك الله ياعدنان فقد لبثت في السقم سنة ونيفاً عانيت فيهما ماعانيت من الضرِّ والألم الكبيرين ، وزاد على ذلك ألم الفراق عن مسقط رأسك حمص الحبيبة التي ولدت وترعرعت وعشت فيها ردحا من عمرك . ثم أردف الشيخ أبو علي العجرمي لعل الله يكتب له أجر شهادتين ؛ شهادة الغربة أن مات مهاجراً إلى الله عن وطنه ، وشهادةَ الكربة أن توفي بسقم عضال أمضَّ منه الجَنان فعساه أن يكون سفيره إلى الجِنان .

كان   الشابان العجرميان  قد قاربا إتمام حفر القبر رغم صعوبة الأحوال الجوية فالسماء مكفهرة ملبدة بالغيوم وقد فتحت أبوابها بغيث مغيث .

كنت أقول في نفسي أنى لنا أن ندفن الجثة في هكذا جو عصيب ؟ فمسَّاحات السيارات ونحن في طريقنا إلى المقبرة لاتكاد تبين الطريق أمامنا من شدة المطر والضباب ؛ لذا مشى الموكب الجنائزي وئيدا الهوينى درءً لحوادث السيارات التي تكثر في الأيام المبلولة .

وما أن حملنا النعش على أكتافنا حتى أمطرتنا السماء بوابل من الجمان والمطر معا . ولكن العجارمة لشدة كرمهم كانوا أعدوا خيمة فوق القبر لحماية المشيعين من رصاص السماء الذي يتفجر فوق الرؤوس ، وكان أكثر المتضررين من انحسر رأسه فلا شعر يكسو فروته ، فكان البرد يقرع صلعته قرعا . تذكرت ساعتئذ الرصاص المتفجر الذي يستعمله شبيحة الأسد في قتل العزَّل الأبرياء ، ولكن شتان بين الاثنين ، فالأول رصاص رحمة من السماء ، والآخر رصاص قتل من لدن كاشح زنيم .

تزاحمت الذكريات في مخيلتي فتذكرت يوم أن التقيت بالمرحوم قبل سنة وأدهشني بضحكاته غير المسببة ، وعندما سألت أهله عن كنه ذلك قالوا لي إنه يعاني من خمس عشرة كتلة سرطاينة في دماغه ! رحمك الل يا أبا مصطفى فكتلة واحدة من تلكم كفيلة بأن تبرك جملا على الأرض ، فكيف بهذا العدد المهول ، تالله لو أن جبلا حملهن لنأى بهن كليلا . أين وكيف كنت تستوعبهن  ياعدنان ؟ لا جواب يشفي فضولي غير قولي لنفسي : إن الله إذا أحب العبد ابتلاه وإذا ابتلاه أعانه .

لم أفق من شريط الذكريات إلا على صوت صهر الفقيد يطلب مني أن أخلص له بالدعاء . تمازجت حبات دموعنا الساخنة ببرودة جمان السماء المنهمر علينا مدرارا ، جعلت من الخليط ملاطا لإغلاق القبر على صاحبه  بعد أن أهالوا عليه التراب ؟

اصطف آل المساعفة معنا لقبول التعازي من المشيعيين وهم يقولون لنا نحن أهلوكم فأنتم المهاجرون ونحن الأنصار مصابنا مصابكم وعزاؤنا عزاؤكم  ، هكذا كانت شيم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في المدينة المنورة المنورة عليها وعلى ساكنيها أزكى الصلاة وأتم السلام .

وما أن هممنا بالانصراف حتى آلى علينا الشيخ العجرمي أن نرافقه إلى بيته فقلنا لمَ ؟ فقال فنجان كهوة على الماشي ، فقلت له لو سمحت لنا ياشيخنا بالقفول عائدين فالسماء تتوعدنا بمزيد من البرد والمطر والضباب علنا نصل عمان قبل أن يداهمنا المساء فيصبح الجو ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ، فالجو ملبد بأخلاط من الغيوم الداكنة تتخلله حبات ودق وجمان أسود ، نعم الجمان استحال إلى سواد من عتمة النهار المكفهر .

نهرني الشيخ مبتدرا : ألا تعرف أنها شينة عند العرب أن تكون في مرابعهم ولا تشرب من قهوتهم ؟!؟ كم يستغرق شرب فنجان القهوة ؟  قلت دقيقة أو اثنتين . قال إذا لا تضنوا علينا بهن . قلت لمن حولي تالله إن الشيخ لاترد قهوته ولو استغرقت ساعة أو ساعتين .

ولجنا بيته المتواضع بالأثاث الزاخر بالحفاوة والكرم العربيين الأصيلين وكان في استقبالنا أولاد الشيخ وأحفاده الذين أغرقونا بجود من القهوة الزاخرة بالهيل الفاخر . وقتئذ أحببت أن أتقدم بكلمة عرفان للشيخ وآله وعموم آل المساعفة من عشيرة العجارمة على أصالة كرمهم .

كان الشيخ أبو علي يصغي إلى كل حرف أقول ، وما أن أنهيت إطرائي لهم حتى ابتدرني بقوله مع نزول خراف المنسف الأردني الأصيل أمام جميع من حضر : اسمع يابني هذا غيض من فيض مما كان يجب أن نكرمكم به ، فأنتم من هاجر فراراً بدينه وماله وعرضه من بطش الأسد وزبانيته ، ونحن الأنصار الذين وجبت علينا ضيافتكم أحياءً وأمواتا . يكفيكم ماعانيتم من مرارة فراق الوطن والأهل ، ونحن بما نقدم اليوم من نذر يسير  نسحيي من الله ثم منكم أن نذكره ولكن  لاجود إلا من موجود ، وإنما نقتدي بالحبيب المصطفى وصحبه من المهاجرين والأنصار ، ونقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله للصحابة : ( اصنعوا طعاماً لآل جعفر ) ، صلى الله عليك ياحبيبي يارسول الله . قوموا إلى طعامكم يرحمكم الله.