سوء ظن

سمر حامد العامودي

سوء ظن

سمر حامد العامودي

ليس في قديم الزّمان، كما اعتدنا أن نروي قصصنا، إنما هذهِ قصةً قصيرةً واقعيةً حدثتْ في عهدٍ قريبٍ إلينا، في سنة 1950، إلى الخيال الجميل هي أقرب، لكنّها واقعية وحدثت فعلاً.

وكانت أحداثها في قريةٍ كبيرة من قرى فلسطين الجميلة، ذات الأشجار الكثيرة المثقلةً بالثّمار الطيبة، والأراضي الواسعة، قَرية جميلة بساكنيها، صحيحٌ أنهم ليسو كُثُر، ولكن! منْ يدخل قريتهم، يجدها ذات بيوتٍ مرتبة، حديثةَ عهدٍ ببناءٍ، وذلك لقربها منَ المدينةِ الكبيرةِ، مدينة نابلس، ذات الجبلين العريقين، عيبال وجرزيم. والمعروف عن أهلها أنهم يعتاشون من مهنة البناء، فهم البنّاؤون، وينقشون الأحجار لتمكين البيوت، أو تزيينها، وكانوا يسمّون أحدهم حجّاراً.

وتبدأ قصتنا عندما تخرجُ صبيةٌ جميلةٌ لم تتجاوز السابعة عشر عاما من البيتِ الصغير المبني من طين وأحجاراً مرصوصة كيفما اتفق، يعلوه غرفةً تسمّى عليّة، وحول هذا البيت سور من أحجار مختلفة الأحجام مصفوفة بعناية إلى حد ما، لا يتعدى المتر في الإرتفاع، ولباس الصبية وهيأتها يدل على أنها عروساً جديدة.

كانت تسكن هذا البيت الطينيّ، مع زوجها ووالديه فقط.

أقول: كانت تخرج صباح كل يوم ومعها صرة من قماش تحوي طعاماً، وإبريق شاي، وتذهب وهي سعيدة كل السعادة، إلى بيتها الذي لا يزال تحت الإنشاء. وهو قريباً من الشارع الرئيسي المؤدي إلى المدينة.

ومتعهد البناء لهذا البيت هو شاب في العشرين من عمره أو أكثر بقليل.

والجميع من أهل ذاك البيت كانوا ينادونهُ بالمدنيّ، لأنهُ مِِن مدينةِ نابلس القريبة جداً منَ القريةِ، واعتاد هو على هذا الاسم.

أمّا العمّال الّذين يعملون معهُ فينادونهُ بالمُعَلِّم.

فكان يأتي هذا هَو والعمّال في الصباح الباكر يعملون في بيت هذه العروس ويعودون إلى المدينة حيث بيوتهم كل مساء.

وكان هذا الشاب محبوباً من قبل جميع من حوله، أصحاب البيت وجيرانهم، والعمال.

إذ كان ذو بنيةٍ قويةٍ، حسن الأخلاق ذو لساناً طليقاً بالشعر الجميل، ويتحلى بنفسٍ مرحةٍ ظريفةٍ، ولا يهزأ ولا يسخر من أحد.

دأب على العمل باكراً، ودأبتْ الصبية على الإتيان بالزاد يوميّاً، فقد كانت تأتي إليهم غداة كل يوم، وهو يأخذه منها دون النظر إلى وجهها، وهي تحكي هذا عنه لأهل بيتها، فيزدادون ثقةً به.

مكث هذا الشاب أكثر من شهرينٍ في العمل، وليس هناك، ما يعكّر صفْوَ هذا العمل نهائيا.

إلاّ أنّه حدثتْ حادثةً جرتْ على لسان الناس إلى يومنا هذا.

وذلك عندما بكّر يوماً بالمجيء إلى عمله، في يومٍ كانت شمسه شديدة وحارقة، لذلك بكّر قبْل معاونيه، استعداداً وتجهيزاًّ للعمل، ولمّا يتمكن منه التعب بعد، وقبل أن تسلّط الشمس لهيبها على جبينه الأسمر! سمع صراخَ الصبيّة، كانت إلى حيْث بيتها الجديد هي أقرب، فخَرج من مكانه مسرعا في اتجاهِ الصْوت فوجد الصبيّة ملقاة على الأرض! ورأى على بعد مترين تقريباً حنشاً أسوداً - أفعى- تقشعّر لهُ ألأبدان، لا يزيد طوله على المتر ونصف. لكنّهُ بعرض ذراع رجل قوي البُنيه.

فأخذ هذا الشاب فأساً كان بين رُكام عدّة البناء، وأخذ يقتلُ الأسود إلى أن قضى عليْه. وكادَ أن يُقتَل هو، لقوة هذا الحنش وشراسته. والصبية لا تزال في إغماءة لا تدْري ماذا يجري حولها.

ولكنّ أهل البيْت والجيران كانوا قد سَمعوا الصراخ من بعيد وركضوا نحوَ الصوت إلى أن وصَلوا المكان، ووجدوها ملقاةً على الأرض، والشاب  يقف بعيداً عند مدخل البناء ولا يدري ما يفعل، ولم يَرَوْ الحنش بعد، إذ كان في حفرة من الأرض حفرها أحد العمال أمس الأول. فأخذ الناس يتصايحون: ماذا حدث؟ وتجمهر النسوة حول الصبية يحاولن إفاقتها، وتساءل بعض الفضوليون : ما الذي أتى بالصبيّة في هذا الوقت المبكِر؟ وماذا فعل المعلّم؟ ومنهم من رفع عليْه العصا، ومنهم من شَتَمه، لكنّه فضّل أن لا يدافع عن نفسه بيده لأنه علم أن الغضب استبدّ بهم، فأشار بيده إلى الثعبان المقتول ولم يتفوّه بكلمه، حيث رأى أن الصمت أبلغ جواباً،  وبيده الأخرى حمل متاعه ودار وجهته إلى الشارع الرئيسي، وكان هذا أوّل يوم ما مسح حبة عرق عن جبينه قط. 

وعندما أفاقتْ الصبيّة وتنبّهوا للأمر، وحَكتْ لهم ما حصل بالضبط، وكيف خافت من الحنش، وأنها جاءت إلي المعّلم بإبريق شاي عندما رأته من بعيد وقد جهّز للعمل. ولم يلومها أحد ولكنّهم لاموا أنفسهم لظنّهم السوء، وحاولوا الّلحاق بالشاب المدنيّ، ولكن! هيهات هيهات.

كانت خطواته أسرع من خطواتهم، عزّت عليه نفسهُ وغلبَهُ البُكاء وهو في طريقهِ إلى مدينته، لِما َرأى من الشك بعدَ الثقة، وِلِما أحسّ بالإهانة، فأبعد ما يكون التفكير به، اتهموه به.

هذه القصة القصيرة حدّثتني بها عمتي في عام 1985، تذكّرَتْها جيداً، حيث قالت لي: أنها كانت تركب سيارةً  للأجرة في مدينةِ نابلس، وبجانبها امرأة قروية ، من قرى فلسطين المجاورة لمدينة نابلس، في لباسها ونبرة صوتها ثقة كبيرة، الصدفة وحدها هي التي جمعت عمتي وهذه المرأة في سيارةٍ واحدةٍ، وأخذَتا تتبادلان أطرافَ الحديث عن مدينة نابلس، قالتْ القروية: أنهُ في وقتٍ بعيدٍ جداً كانت هي، عروساً، وكانت تذهبُ إلى بيتها الجديد الذي يبنيه شاب كذا وكذا,... وحدثتها القصة كاملة وعمتي كانت بجانبها تبكي ولا تعلّق على كلامها، وهذه لا تدري لماذا البكاء، هل تأثَرت بالقصةِ إلى هذا الحد؟ أم ماذا؟ ولكنها بعد أن انتهت القروية من رواية قصتها، أخبرتها عمتي أن الشاب الذي تتحدث عنه يكون أخاها وقد توفّاه الله تعالى قبل أشهر، وهي تعرفْ بهذه القصة منذ زمن، كما يعرفها الجميع.