ضحك في عزاء

سمر حامد العامودي

سمر حامد العامودي

تجاوزت الثمانين عاماً، رأيتها تضحك ملأ شدقيها، لفت انتباهي هذا ألتصرف الغريب، ليس لأنها تضحك، بل لأنها كانت تتوسط بعض النسوة من مختلف ألأعمار، في بيت عزاء لإحدى قريباتها. ظننتُ بداية أنها تروي لهم قصص جحا أو ما شابه، لكنني عندما اقتربت منها، فوجئت أنها تعيش في واقع آخر غير واقعهم، تحكي وتسرد قصصاً واقعية حصلت معها قبل خمسين عاماً أو أكثر، تحكي ما يضحكها، لكنه يبكيهم، نعم : ليس غريباً، إنها تعيش في واقعها هي، أم محمد، هكذا سمعتهم ينادونها، يقولون: يكفي يا أم محمد، البلاد راحت وأنت ما زلت تنظفين أرضكم من العشب، وتحكي عن أبو محمد لماّ خطبك،- وهي ما تفتأ تضحك وتهز برأسها إلى الأمام- وسيرتكم لماّ صارت على كل لسان بينكم وبين عائلة أبو حسن من أجل ألأرض، يكفي يا أم محمد.

وعبثاً يحاولن ترجيعها إليهن، والجلوس معهن بعقلها وجسمها معاًًً.

 خطر لي حينذاك أن أعيش معها في تلك البلاد(يعني فلسطين) ولو لحظات لعلها تروّي بعضاً من ظمئي لرؤيتها. وفعلاً اقتربتُ منها مباشرةً، وأمسكت بيدها بكلتا يديّ كأني سأدفئها لها،

نظرتْ إليّ بحنان واضح وقالت: هل أنتِ بنت أبو حمد؟ وغارت نظراتها في أعماق عينيّ، وسكتتْ هنيهة ولم تنتظر جوابي، بل ضحكت وشدّت على يديّ، وأخذت تسرد لي أين ذهبت مع جدتي التي تعرفها من زمان- وهي لاتعرفها أبدا إنما تتخيّل ذلك- وتصف لي أيضا كيف ومتى بُني لها بيتها، ومتى كانت تذهب إلى الأرض كي تجمع ألنتش كما تقول- أي ألعشب أليابس- وعدّتْ لي الشجر وأنواعه وماذا كانوا يفعلون بالبرد القارص، حتى كأنني صرت أعيش معها في تلك الأيام، وشعرتُ كأن البرد تخلل جسمي كله إلى أطرافي من وصفها لشدة البرد.

وتنظر إليّ، وتفتش في عينيّ عن شبيه لي تعرفه، وصغرّت عينيها قليلاًًُ وقالت: أمك كانت تخبز طابون؟؟ وأيضاً لا تنتظر جواباً وتبتسم، وتشرح لي عن عجنه وخبزه، وكم كان لذيذاً ذلك الخبز مع زيت الزيتون أو السمن البلدي أو بدون شيء، وحكت لي أين كانوا ينامون وقت الحصاد، وكنتُ أسألها ما يحلو لي، وهي كانت  تجيب وتتوسع كما يحلو لها وتشرح حتى كأني زرت قريتها بيتاً بيتاً وتعرفتُ على القرى المجاورة من خلال حديثها ووصفها الدقيق الجميل لكل بقعة عاشت فيها، وسُررتُ لما رأيت في عينيها من راحة، كأنها كانت تنتظرني من مدة طويلة، وأنا كنت بشوق لمثل هذا الحديث وهذه الزيارة.