اللحظة الأولى... لحظة عنف !

اللحظة الأولى... لحظة عنف !

عنفُ آدم

جمال الحنصالي

... ثم هادَ إلى الرّب الواحد القهار، وازْرأمَّ كلامه الفاحش، وغض البصر، ولمعت عيناه المختبئتان وراء السواد واضمحل حجم بؤبؤيهما.. وفي قبسة زمن غاب احمرارهما، فغاب كل شيء بعدها، في وقت كانتْ هي كل شيء، وكل شيء راح وانتهى حين وطأت قدماه تلك القاعة الفسيحة المزودة بمكيفات الهواء والمزينة جدرانها بصور تلك النساء الحسناوات، الحزينات والباكيات، وأولئك الرجال ذوي الشوارب المفرومة والأيادي الخشنة والثياب الرثّة...

 الكل حضر والجميع هنا، عدسات اصطناعية ترصد الكبيرة والصغيرة بالألوان المزركشة والأشكال الالكترونية، تُرسلها مويجاتٍ مويجاتٍ عبر الفضاء فتعانق الأقمار غير الطبيعية لتترجمها إلى حركات وكلام يبدو حقيقيا خلف الزجاجات الملونة، أمّا العدسات الطبيعية فتجوب المكان بحرية مادامت العضلات فتية، والبال خال من أي فكرة واعية، تقرأ ملامح ذاك الوجه وتلك السّحنة البشرية، لتبعث الإشارة إلى الدماغ كي يصادق أو لا يوافق حسب هواه وحسب ثقافته الشخصية.. هذا ما يقع حين يسيطر الصمتُ إلا من همساتٍ تتجه صوب الآذان في انتظار شخْشخة "المكروفون" وتصفيقات الحاضرات والحاضرين..

 قال إنه لم يكنْ يقصد ذلك... لكن الكل نظر إليه نظرةً فيها كثيرٌ من الأسى والاحتقار خصوصا واللافتة عُلّقتْ أمام منزله الكبير جدا، حيث تلامس هذه اللافتة العريضة نافذة غرفة النوم، حين تهبُّ الريح خريفا أو حين تحرّكها فقط نسمات الأصباح الصيفية، المهم أن اللافتة قريبة جدا ومكتوبة باللغة الفرنسية والعربية وحتى بالأمازيغية، بهذا الترتيب الذي يحلو للبعض ويزعج البعض.. لكن الفحوى كان واضحا وضوح الشمس.

 اسْترسلَ الرجل ذو القامة الطويلة في حديثه المحروم من الدفء والخالي من الشجون، وفي كل مرة كانت الأُحّة بمثابة فواصل تقطع كلامه، ويبدو أنه لم يتناول وجبة الفطور التي ألفها في مثل هذا الوقت بالذات؛ العاشرة والنصف صباحا... حتى علبة السجارة التي كانت لا تفارق جيب معطفه البني لم يجد الوقت الكافي لخنق واحدة بين سبابته ووسطاه كما اعتاد !

 بصوتٍ متذبذب قال: " ... لما غَطا الليل ولم تعدْ إلى الدار، عال صبري وسالت رواويلي من شدة الغضب، من جبيني تصبب العرق، وداخل قلبي استقر الكرب، اعتصرني الهول واستعمرني الشك والسقم، ضمني الخوف ولفني الضجر... فتغيرتْ أشعة المصباح الذي كان يتوسط سقف الغرفة، ثم تحولت الجدران إلى لوحات تشكيلية غير مفهومة تحكي قصصا غير معروفة.. مزعجة، مخيفة ومرعبة. آهٍ، الغرفة تكاد تكون خالية من أي أكسوسوار، هكذا أراها، غير كرسي تموقع في أقصى الركن يسارا كان خشبيا، جالسة عليه نفسي، كانت متكئة وللسوء آمرة. وجها لوجه، هممتُ مساءلتها، وأنا أعرف تمام المعرفة أنها ستؤنبني على استهتاري ولامبالاتي واختياراتي المتهورة في عز شبابي قبل ولوج القفص وطوق الأصبع بمعدن من المعادن النفيسة، أو ربما كانت ستهدئ من روعي وتقلل من اندفاعي الصبياني، موظفة كلمات رنانة وساحرة كالتي تصدر من جوف مذياعي الصغير الذي أهداه إيايَ جدّي حين كنت أدرس بالجامعة، أو مستعملة كلمات غير متقاطعة كالتي أقرأ من خلالها أخبارا متفرقة في صفحة من صفحات الجريدة التي يلفّ فيها بائع النعناع "سي براهيم" قطفات من نعناعه اليابس عند باب "السويقة".

 آهٍ، من هاته النفس حين تضع الشخص نصب عينيها، لقد وقفتُ أمامها كالشّارد المتسمر في مكانه، كنت أظنها سترسمُ من أجلي خطة تستحضر معها شرقية الرجال ذوي الشوارب الداكنة الملتوية والأصوات العالية المزمجرة أو ربما كانت ستواسيني كما كانت تفعل أمي الحنون حين يصفعني أبي وهي تعلم أنني أستحق تلك الصفعة... كنت أظن كل ذلك وكنت أتوقع كل شيء من هاته النفس التي بقيت جالسة في مكانها على ذاك الكرسي الفريد من نوعه، لكنني لفظتُ أخير سؤالا ونجحت في صياغته لأنني كنت في أمس الحاجة إلى سماع الإجابة.. أجل سألتُها، فهي الوحيدة الجالسة أمامي على كرسي "الكوافوزة" تسمع أقوالي الخجولة ونبرات صوتي الحزينة، سألتها قائلا:

-         ألا تهاب هذه الآدمية التي انصرفت، بلا إذن ولا ترخيص، بطش أولئك الذين تعادل الموت الحياة في قاموسهم الغريب؟

-         ألا تخاف هذه الإنسانة التي خرجت خروجها السرمدي وللقائمة انضافت، وطبعا الأرض انشقت وابتلعتها و"الغايب حجته معه"، كما تقول جارتنا السيدة عائشة المعلمة بالمدرسة الابتدائية ، كلما سألتها عنها؟

-         ألا تخشى هذه المرأة هَوشات الليل ومخلوقات علبه، تلك المخلوقات العجيبة التي يُقذفُ بها إلى الشارع كدمى متحركة بدماغ قد صار بخارا يخنق الأنفاس، وعيون لا ترى إلى الأهوال، وقد تفعل هذه المخلوقات أي شيء في سبيل أي شيء؟

-         ألا يُفزعها منظر الزقاق الخالي من حركة البشر إلا من رجّة قمامة الأزبال حين يأوي إليها القط المتشرد الذي سئم اللهو والعدم، أو هزّة قنينة "بيرا" فارغة تلعب بها زفرات الريح التي تحاول قتل الملل الذي دب في الزقاق كما يدب في الجسد ذاك الشلل؟

-         ألا يُرعبها منظر الشارع الطويل الممتد حتى السماء وأرصفته المتآكلة من كثرة الصدمات؟

-         ألا يُزعجها الناقوس وحاملو الفانوس؟

-         ألا تجد هنيهة من وقتها الثمين جدا كي ترفع عينيْها الغارقتيْنِ دوما بين الأوراق الملونة والمرقمة، وتتنازلَ وتنْزع نظارتيها البلاستيكيتين كي ترى تلك الساعة العظيمة كيف استطاعتْ أن تثبت في مكانها منذ سنة 1956م وتشبثت بذاك الحائط العتيق وبقيت وفية له لأنه شاهد على تاريخ مدينة أحبها حبا جما، ثم تدقّقَ هذه السيدة المحترمة نظرها مركزة على عقربي الساعة حين يتطابقان في حب وإخلاص وانسجام ورأسيهما حين يتجهان معا إلى أعلى في استقام واعتدال، وسكون الليل يُغنى في المذاييع في كل مكان؟ وهذا درس من دروس الجماد للإنسان.

-         ألا تدري هذه الحسناء أن الوقت قد حان؟ ألا تدري أن أعمدة الكهرباء المغروسة بمحاذاة الشارع لطيور النورس فيها حق النوم والاسترخاء؟ وهل تعي أن أضواء المصابيح جاملتها وبقيت مشتعلة لسبب بسيط؛ أن رئيسها المباشر في العمل أصبح يؤدي الضرائب مؤخرا؟

 شعرتُ، يقول الرجل المرتجفُ، أنني تغيرتُ من حمل وديع يؤمن بالعدل والسلم والقانون والحقوق.. إلى شيء آخر؛ مجرد جسد بعضلات مفتولة وثائرة وروح بهواجس صارخة، تحولتُ إلى رجل عنيف يتلذذ إلى حصد الذنوب ويستعد لارتكاب الخطايا... في رمشة عين أسرعتُ كالمجنون إلى المرآة المنتصبة هناك خلف الباب الذي يتوسط أبواب الصوان، أمسكتُ بها بكلتا يديَّ حتى كِدْت أنزعها من مكانها، هي الوحيدة الشاهدة على ما كان يجري بهذا المكان، وما سيجري بعد حين، إنها تحمل الحقيقة المطلقة، بل وتعكسها بأمانة وإخلاص دون مجاملات مزيفة، تعرفنا جميعا أنا وهي، تعرفنا كما لا يعرفنا أي أحد سوى الله.

 أحسستُ فجأة أنني خائن، فالمرآة تستحق قلبي أكثر من تلك التي انطفأت شمعة ميلاد حبها في أغواري ولم تعد تستهويها نكتي السخيفة ولم تعد ترعشها أنفاسي البريئة، كما لم تعد هذه المرأة تزورني حتى في أحلامي... تابعت النظر إلى المرآة وهي تحكي حكاية طويلة في لحظة حاسمة، فوجئتُ حين عكست صورة إنسانٍ لا بل وحش كاسر ! رأيت أنيابا أوشكت أن تمزِّق شفاها رمادية اللون خالية من قطرات الدماء، رأيتُ كذلك عينين مستفزتين ترسلان شرارة وبريقا يخفي حقدا وكراهية وامتعاضا، وفي الجوف تتأجج نارٌ لا تهدأ ألسنتها تهتز اهتزازا... تخيلتُ هذه الكائنة البشرية في الوقت الميت شاة ترعى ليلا بلا راع، وأنا ذئب متوحش يعوي بداع وبلا داع.

 تربصتُ خلف باب الغرفة التي كانت منذ لحظة وردية فما عدتُ أميز، أسكتت نباح التلفاز ومسلسلاتها المدبلجة فما عدت أصدّق، اختبأتُ خلف الستائر التي اختارت هي ألوانها وأنا سددت ثمنها، وأطفأت الأنوار فما عاد قلبي يسامح، مزقت خيط السُّبحة المعلقة في الزاوية التسعين للغرفة فما عادت روحي تُسبّح.. ومع هزًّةِ محرك السيارة، وخشخشة المفاتيح، وقبقبة حذائها الجلدي ذي العقب الحديدي ودقّة الباب.. ورائحتها الزكية الممزوجة برائحة العرق .... وقع ما وقع !"

 قليلون خرجوا مطأطئي الرؤوس.. وكثيرات صمتن واضعات الأيادي على الصدور.. كما صمتَ هو.. وكفَّ عن أوابد الكلام وعجائب الأمور !

 كنتُ من بين من حضر وسمع وانبهر، فجأة، سمعتُ هناك، قبل أن أهمّ بالخروج، سجالا حادا بصوت خفيف نابعا من خلف المنضدة الشرفية:

-         " ما رأيك يا ياسمينة في ما وقع مع هذا الرجل؟ هل سيتم نزع اللافتة أم نغير فقط العبارة حتى يتسنى له ولأمثاله فهم الرسالة؟ "

 أطبقتْ ياسمينة ساكتةً وبعد تنهيدةٍ عميقةٍ، عدَّلتْ بذلتها الرسمية ولملمت خصلات شعرها المنفوش ومسحت بمنديل كان فوق المنضدة بقايا أحمر الشفاه، وقامت بتشغيل هاتفها المحمول، ودون أن تنظر إلى مرآتها الصغيرة التي تضعها دوما في محفظتها السوداء، وقفتْ وقفة العسكري حاملة ملفها الأزرق والأوراق تتناثر من جنباته كما تتناثر حبات القمح من فوهة آلة الحصاد، وردّتْ على من كان جالسا بجانبها بعد أن وضعتْ نظارتيها السوداوتين قائلة:

-         " افعلوا ما شئتم، لقد تأخرت كثيرا...." وهي تنظر إلى ساعتها اليدوية الذهبية التي أهداها إياها زوجها في عيد زواجهما العاشر..