أحلام عثمانية

أيمن عبد السميع حسين

أيمن عبد السميع حسن حسين *

[email protected]

( 1 )

-أصوات جماعية – 

قريتنا صغيرة ( تتبع المركز ) يمر وسطها شريط القطار تتكون من عدة أُسر كبيرة ، تتداخل فيما بينها بالمصاهرة ، بها عدة أماكن تعد من معالمها الأساسية: المسجد والبوسطة والسلاحليك الرابطة قبلي دوار العمدة ( حسان الشيمى ).. كان أهل القرية في ذلك الوقت ( 1953م ) يعتمدون على الزراعة وتربية النحل وصناعة الطوب الأخضر.

مع غروب الشمس..

كان هنالك طابور صغير من الفلاحين والمواشي تخترق المدق الترابي ، وتعبر شريط القطار بجوار كشك المحطة المتهالك المغبر.. وكان يبدو علي فترات متباعدة بيوت واطئة متراكمة.. متزاحمة .. متلاصقة ،فوق سطوحها أكوام من حطب القطن ودريس البرسيم الأشيب كأنها قبيلة من الغجر .

جدي (( الشيخ عمران )) يجمعنا حول ( منقد ) قوالح الذرة ، يشهق براد الشاي فيرتفع غطاءه ..عرق يتصبب من مسامي الوجوه ..أنا وأبى وأخي محمود وآخى عثمان وعمتي نجية وزوجها مجاهد ،كنا نصغي باهتمام – كعادتنا دون مقاطعة - لحكايات جدي .. احتوانا المكان المعتم .. كنا نرتشف الشاي واحد بعد الآخر في تلذذ .. نظراتي الواهنة ترقب – من كوة بالجدار المهدم – تمايل النخيل مع نسمة الليل الطرية .

عمتي نجية

قصيرة القامة .. متوسطة الجمال ..في العقد الرابع من عمرها ..فيها سمار أبي ..صوتها يشبه صوت الرجال ،كان وجودها قائم بيننا علي الدوام ..دون أن تزورنا فهي تجلس أمام دارها الواقعة ناحية الحارة السد.. تسمعها من دارنا لا تكف عن الصياح مع زوجها ( مجاهد ) وأولادها الستة .. كان صوتها المبحوح لا يعني بالضرورة عراكاً يستدعي إغاثتهما ..بما تزعق في جارتها حسنية بنت علي الطحان التي استلفت منها شيئاً ( يد الهاون ) أو ( مفراك البامية ).. أو ما شابه ذلك دون أن تعيده بسرعة .. 

  ( 2 )

كانت الشمس تتألق وهي تترنح بكل الألوان .. تتصدر كل الإشارات بلا توقف ، يجلس جدي الشيخ عمران في ( المجاز ) تلمحه معمما بعمامة كبيرة بلون صوف الغنم ،يتدلى طرف شالها حتى صدره .. وزبيبة الصلاة تتوسط رأسه كثمرة التين .. في كل مرة يرتفع صرير باب الحوش البرانى فتدخل عمتي ( نجية) تقترب من جدي تقبل يده وخلفها زوجها (مجاهد) .. كان جدي منهمكا في قراءة

 ( دلائل الخيرات ) .. ركنه علي صوان بجانبه وراح يحدث ( مجاهد ) الذي كان يلبس ( زعبوطاً ) كاكي يكشف عن صدره.

 *كيفك يا ولدي يا مجاهد ؟!

* الحمد لله يا أبا الحاج !

كنا نسمع صوت الاسطي ( عوض ) الحلاق يخاطب حمارته السوداء وهي تلقم بعض ( العفش ) المتناثر علي الطريق ( هيس .. هيس .. يا حمارة البين )

وانبثق شعاع من الضوء فجأة مخترقاً طيات الظل في خط مائل .. يخلع عثمان لباسه خلف

( السباته الورانية ) وفمه يهرج مع عوض الحلاق ..

* أبوك يا عوض ؟

* أشمعني يا غتت ( قالها بتهكم علي أخي عثمان )

* نزل زلعة المش بلعته الدودة.

ضحكنا جميعاً وضحك أبي ويده تهتز بعلبة مستطيلة حديدية صدئة ، وأخذ يلف بورقة ( البفرة ) فرط الدخان ويلصقها بلسانه .. وضحك جدي ، لم أعهده يضحك بهذه الصورة التي أبرزت نواجزه .. راح عوض يطقطق بالمقص فوق رأس جدي التي اشتعلت شيباً

*اليومين اللي فاتوا .. الطوارق شاده حيلها بحري وهاتك يا قبض علي مخاليق ربنا يا جماعة .

 قال عثمان ويده تسحب ( خطام ) الجاموسة للخارج

*كله كلام و لا شئ من ده كله حصل .. ( أراد أن يحرق دم عوض ) نطق عوض بحرقة :

*علي الطلاق بالتلاته ..الوله علي ابوسته كاتب السلاحليك وتلفون العمدة ( حسان ) عمره ما يكدب ده بيصلي فرض بفرض وجول يا صبح ياسي عثمان يا مفتح .

 نطق مجاهد ويده تهرش قفاه ..

 *يا صبح .. ثم انطلق بضحكته الصبيانية ( هوهوهوهي) !!!

قام جدي من جلسته .. ثم نفض جلبابه وقال:

 *والله البلد عماله بتغلي يا جماعة وربنا يستر ويطلعنا منها علي خير .

أمنت عمتي نجية علي كلام جدي وذراعيها ترفع ( طن البوص ) علي رأسها (( آمين ))

 هرش أبي مؤخرة رأسه .. ثم زعق في أنا وأخي إبراهيم كمن أفاق من غفوة :

*فزوا يا كسالي .. الشمس بقيت في قلب السماء - ورانا دودة القطن هتطلعنا علي ( فشوش)

السنة دي باين .. رفسني محمود بقدمه الصغيرة :

*يلا يا عم إبراهيم خلينا نحصل الأنفار ..

 قال مجاهد

*وأنا وراكم ( فركة كعب)!

 ( 3 )

كانت الشمس تصب حممها علي الدنيا ، عندما أقترب عثمان من ( بيوت العرب ) هي أول ما تقع عليه العين في مدخل القرية – وراح يحسس الطريق بجوار صوامع الغلال .. همس عثمان ويده تقبض علي ( بلغته ) الملوثة بروث الماشية :

*رحمة .. رحمة .. أنت يا بنت المعفن .. افتحي !

تسمع صوتها منطفئا .. أحست بضيق

*نعمين ياسي عثمان !

خرجت من خلف ( السباته ) البوص فتاة عشرينية سمراء .. حسناء .. يتوسط ذقنها غمازة تزيد من جمالها ، اليد مزدانة بعدد من الخواتم ، وفي القدمين خلخال من الفضة .. والوجه يتوهج بالرغبة.

أقترب منها عثمان ويده القوية – المعروقة- تقبض علي ذراعها الذي اكتسي باللحم

*جمعه بحالها يا بنت ( الرفضي ) غايبة .. كنت فين ؟

قالت رحمة في خنوع :

*عند ناس قرايب في ( شطورة) ياسي عثمان

 ضحك عثمان .. ثم تجهم علي فجأة وشمر عن ثيابه وهز لها عضوه النائم .

*قرايب مين يا أم قرايب .. لكمة تلكمك .. تلاقيك كنت دانه في شقق العزاب بحري (( تفو ))

تباكت رحمة .. ثم نظرت إليه بعيون مكحلة بخطوط عريضة .

*لمني في الحلال ياسي عثمان .. ربنا يستر عليك وأعيش طوال حياتي خادمة لك !

تمتم عثمان وقد حنت مشاعره .. فلكمها في صدرها البض .

*تتعدل يا رحمة !

 عاثت أصابعه في جسدها ، فتبدو رحمة مرخاة الأهداب .. تطل من وجهها أصباغ صارخة .. تضمه بشبق .. يسقط عليها عثمان .. يجمعهما القيلولة خلف ( السدية الجريد ).

( 4 )

في المساء ،تجمع الرجال في ( مقهى الزعمان ) ودوي سعال عثمان وفمه يشد نفسا عميقا من النارجينة ،ارتفع صوت رجل عجوز يخاطب عمال ( الدريسة ) : (( يا خلق أرضنا طاهرة ، والله يحميها )) وانطلق رجل يثرثر مثل مدرس ، يعد قراءة التاريخ ، تحدث في أمور متشعبة وختمها بصوت واضح (الوحدة العربية حلم عبد الناصر وهذا الحلم سيأتي علي رأسنا بالتعب من الغرب) .

وبين رائحة الدخان ،وبخار الماء ،والشاي المغلي ، ارتفع صوت" الشيخ عليان" مرتديا قفطانه الشاهي المخطط ،وكاكولته الصوف الجبردين كان ماراً بالمقهى ،تفوه قانطاً من هذا التهريج السياسي الذي بدا يعلوه داخل المقهى .. القي عثمان "لي " النارجيلة من يده عندما لمح " الشيخ عليان " قال الشيخ وهو لا يعير عثمان اهتماما : (( آن للزمن الجائع أن يلتهم الضعفاء!!)) .. علق عثمان وهو يقترب من الشيخ : "نحن نتبع أضعف الأيمان يا سيدنا" .. حدجه الشيخ بنظرة غريبة : (( لا حول ولا قوة إلا بالله .. لماذا هذه الذلة والمسكنة )) علق آخر :(( وماذا بأيدينا يا مولانا؟!)) .. أربد وجه الشيخ وقال (( بأيدينا الكثير يجب أن يسكن في قلوبنا حمية الوطن ،والأرض ،والدين )) رفل الشيخ عليان مغمغما مع نفسه ،ملوحاً بمسبحته : (( آن للزمن الجائع أن يلتهم الضعفاء )) كررها مرات ومرات حتى غاب عن العيون .

( 5)

لنتحدث قليلاً عن عم ( بشارة ) : صديق جدي، بسطاوي بلدنا .. كان ابيض في لون الحليب .. طول عود ( السرو ) ضخم الجثة كالباب ،تئن حمارته السوداء تحته وهو يلكزها بقوة في بطنا .. كان يمر علينا يومياً في طريقه إلي صندوق البريد المثبت في جدران دوار العمدة القريب من دارنا .. يكبش بعض الخطابات من ( خُرجه ) المرابط فوق الحمار ، يستفسر عن أصحابها من جدي .

كنت ألمحه أحيانا في غفلة من جدي ،يفتح ورقة (سلوفان ) صغيرة ، يخرج "ثمارة الأفيون " يدسها خلسة في فمه ويشفط الشاي متلمظاً .

وفي المرة الأخيرة حين رأيته مضطرباً فالتبس علي الأمر وادركت أنه في محنة ..

سمعته في مرة من المرات يشكو لجدي ضعفه في فراش زوجته "البحراوية" ،فأشار عليه جدي بالعسل الأبيض وحبة البركة .. فقال له :

*جربتها يا حاج عمران دون فائدة .

فابتسم جدي وقال :

*يبقي عجلك فش يا مقدس بشارة !

فضحك بشارة وهو يلم الخطابات المبعثرة علي الدكة :

* يلا حُسن الختام يا حاج !

قال جدي وقد تغير وجهة مخاطباً بشارة :

*والله أنا اللي باين عجلي فش يا بشارة عندي (زعدة) في قلبي راحة تقضي علي !

فارتجف بشارة :

*ألف سلامه عليك يا حاج .. طب بينا نروح لدكتور البندر.

 قال جدي بصوت ضعيف:

*يومين أن شاء الله بس نفوق من شوية القطن اللي هيضيعوا منا .. وبعد كده نشوفو نفسنا .

( 6 )

بعد أسبوع ..

كانت عمتي تجلس أمام الموقد تنفخ في النار وعيناها تدمعان من الدخان .. ثم همهمت بالبكاء وقالت وهي تُحمي طفلها في ( الطشت ):

*ربنا يعفي عنك يا حاج عمران ..

قاطعها صوت مكتوم كالطفل الصغير .. كان صوت "مجاهد" يرقد بجوار (طوالة) الجاموسة:

*يا اللي مالينا حد بعدك يا حاج عمران

ثم عاد يهمهم بالبكاء ويمسح مخاط أنفه - الذي تدلي – بكم جلبابه

( 7 )

اشتد المرض بجدي علي غرة ، وجاء أبي بحكيم البندر ،فاسر إلي أبي بأن جدي في ساعاته الأخيرة ، حزن أبي ، واقتربنا حول جدي نتحسس منه كلمة تنبت علي فمه ، تنبه قليلاً بعبارة قد دمرها المرض :"ربما تكون هذه آخر كلماتي لكم يا أحبابي " شد علي يد أبي " .. أسمعني يا سعد ، هناك بلاص برقبة وليس بها ودان مدفونة تحت الفرن القديم في دارنا البحرية " كان والدي يسمع في اهتمام" .. أعتقد أن بها كنز ، تركه إلي والدي ،جاء في المنام،وقال لي : (عمران لا تحفر علي البلاص إلا بعد هذه الرؤية بخمسة عشر عاما بالتمام والكمال،إذا سمعت نصيحتي ستجد الخير كله !) تنهد جدي ، وابتلع ريقه الذي جف وكز علي أسنانه الثرمة المعلقة في فمه ،ناولته قليلاً من الماء

ثم أكمل علي مسمع من أبي وأخوتي الذين هاموا بما سمعوا:

(( يا سعد .. يا أولادي .. لا تتركوا دياركم عُرضة للشياطين حتى لا تسكنها العفاريت ))

كان جدي يوزع صنوف الكلام والنظرات علينا غمغم وهو يشير بسبابته إلي أعلي النتيجة المعلقة في الحائط " باقي من الزمن خمس سنوات وشهر من تاريخ الرؤية " .. صمت ثم عاد وجسده يحتضر : "أشهد أن لا إلا الله ، وأن محمداً رسول الله " ومات في هدوء مطبق.

( 8 )

هبت الرياح عاتية ، ونشر الليل حجبه ، فلاذ القرويون بدورهم يحتمون من البرد القارص .

كانت رحمة تقف أمام المرآة المعلقة علي ( السدية ) تمشط شعرها المبلول وقطرات الماء تلسع وجه عثمان عندما تجذب المشط في شدة .. كان راقداً في الفراش متحرراً من ملابسه .. ينظر إلي صدرها الناهد ..تتسرب الدقائق شيئاً فشيئاً ، يتسرب سرسوب هواء بارد من خلف الشرخ الزجاجي وتسقط نقتطان تنبئان بأن المطر لا محال .

( 9 )

ومر شهران وفي الصباح الباكر ، كان بخار الماء أبيض كثيف يجثم فوق أشجار الجميز والنبق وينبثق ضوء خافت بين البنايات الواطئة .. ركب أبي الحمارة ساحباً خلفه الجاموسة ، يتجه إلي الدار البحرية القديمة ، كانت الدار علي حافة الطريق المؤدية إلي " السلاحليك " ، يجلس أبي أمام الدار وبصره معلقاً بالفرن القديمة التي هلس عليها العنكبوت ، وزحفت الشمس علي رأس أبي فلم يشعر بها ، وأخذت " شيلة" برسيم ورميتها للجاموسة فلم يشعر بي ، تركت أمامه "صرة" بها الغداء كانت دموعي تتساقط في هدوء فوق العفش اليابس الذي فرش الأرض.

(10)

مالت الشمس قليلا ، لتواجه الدور الصغيرة ، وظهر " جاد المولي " – المجذوب – يرفل في ثياب رثه ويحتضن جدياً صغيراً ، يتقافز علي قضبان السكة الحديد تارة وفوق "الفلنكات" الخشبية تارة أخري يدندن بصوته :

" كل شئ هيظهر .. والضحك في النهاية .. والخير جاي

كان عثمان منكفي علي البنت رحمة فبدت أنفاسه تتلاحق بسرعة .

 تلعثم عندما عاد صوت " جاد المولي " :

 (( يا سابل الستر يا رب !! ))

( 11 )

الكنكة الصغيرة ترقد في " القروانة " وسط قوالح الذرة والماء يتقلب تحت قسوة الوهج ، يرتفع بصر أبي إلي ضوء الكلوب المعلق بمشجب مدلي من السقف ، كانت فراشات تحوم حول النور وتحترق ، نهض أبي مسرعاً ، دون أن يحدثنا بشئ ، ثم أعطانا وجهه وقال :

" تصبحوا علي خير "

قلنا بصوت واحد :" وأنت من أهله "

( 12 )

صحوت فجأة في قلب الليل ، ابحث عن قُلة الماء ، فسمعت صوت أبي يحدث أحداً وبعد قليل أجد صوت زفراته يتلاحق ثم يعود أدراجه إلي الحديث الخافت .. همست إلي أخي عثمان ، فدفعني بساقه الطويلة وقد رقد علي سريره الجريد .. قال بصوت الفظ " غور اتخمد ، تلاقيه بيحلم بالبلاص .. آخ يا البلاص .. سأشتري منها خمارة الخواجا " فلتس " وأتزوج بنت شيخ الخفر ، واضرب التخين بالجزمة القديمة في البلد الوسخة دي "

( 13 )

وقفت علي الجرف البحري ، انظر إلي دار جدي القديمة ، وتبدو قليلة بين الدور الأخرى ، خلف الدار كانت الأرض تنحدر خفيفا إلي شاطئ الترعة وحولها أثار سياج من الطوب وبدأ التل القابع في نهاية النجع أصغر مما كان في المرات السابقة ،تقدم خطوة نحو الدار كان متكورا داخل نفسه ، يستند برأسه علي الجدران ، كانت تحمل أثار أمطار قديمة.. ما يحدث الآن يبدو غريبا .. لقد ترك أبي الطعام الذي هو به شغوف ، ولم يعد يذهب لصلاة الجماعة كما تعود .. كان فمه الواهن يلتقط بعض اللقيمات دون أن ينبس بكلمة .. تذكرت صوت أمي " رحمها الله " عندما كانت تحكي لنا عن أبي الذي شرب "رطلين سمن بلدي " علي ريق النوم ، وفت رغيفين " شمسي " في قصرية وش مع كوز مش قديم .. تنبهت ، فوجدت أبي يعبس تحت وطأة نظراتي العالقة به ، فيمضي بوجهة أخري .. قدمت إليه قُلة الماء ، تناوله ببطء وبيدٍ مرتعشة رفعها علي فمه .. بعدها .. قال بعض الكلمات :

*إبراهيم قوم روح لربما أخواتك يستعوقوك ، ابتسمت في وجهه ، وأحسست – عندما نظرت إلي بريق عينيه – بنشوة تسري في جسدي

( 14 )

تهوي الغربان علي فجأة .. تحلق بجناحيها فوق أشجار الكافور العالية ، ويأخذ الظل شكلا دائرياً عند الكوبري " أبوسنان " خرج أيوب " عامل التحويلة " من كشكه الخشبي العتيق ، ولمح من بعيد أخي عثمان يحث حمارته علي السير " حاااااه يا فقير عبد الظاهر " سأله وهو يقرط علي الصواميل :

*كيف حال أبوك يا ولدي يا عثمان ؟ سمعت أنه عيان من جمعة "

نطق عثمان بكلمات فاترة " رايق "

كل شئ من حوله يُخرج بخارً ابيضاً حتى منخار الحمارة التي تسير ببطء علي غير عادتها ، في هذا الصباح الشتائي .

 وقرب الأنحاء جهة بيوت العرب القليلة ، سمع صوتا ينادي :

"سي عثمان "

تنبه عثمان خلفه ،

*خير يا رحمة ؟!.. قايمة ليه من النجمة ؟

قالت وهي ترفع طرف ثيابيها عن ساقين كالشمع :

" سمعت أن عم سعد بعافية شوية قلت أسال عليه عيوني عثمان"

 قال وقدميه تلكم الحمارة في بطنها لتسرع : " بخير يا رحمة !!"

 لوحت بذراع مكشوفة بيضاء ( مع السلامة يا عثمان .. أوعاك تنساني يا حبيبي أنا هنا غريبة ) تمتم عثمان وهو يبعد :( قبر يلمك )

( 15 )

أختفي نصف قرص الشمس .. وزحفت ظلال المساء علي القرية فكان -العسكر السواري قد أقبلوا يتقدمهم ضابط المركز .. يعم القرية لغط وهرج بعد اكتشاف جثة البنت رحمة عائمة في المصرف العمومي.

وراحت تجأر الأصوات .. مابين الشماتة والألم علي المسكينة الغريبة ، التي راحة فطيس

ولا زالت الشمس تنشر حرارتها علي رؤوس النسوة اللاتي قعدن في الوسعاية ،وفي العيون لمعة حزن علي البنت رحمة .

كنت اسمع صوت عمتي نجية عند ( الحنفية العمومية ) تخاطب النسوة فيما حدث للبنت رحمة

*الله يكحمها مطرح ما غارت .. دي كانت ( مبوظة ) نصف شباب البلد .. وعمالة تشاور نفسها في النص التاني .

( 16 )

كان ضوء الصباح ينتزع نفسه بصعوبة من بوتقة الليل ، عندما انتهت الحكومة من البت في جريمة قتل رحمة وقيدت ضد مجهول .. فساد دروب القرية – لحظة سماع الخبر – هدوء مطبق .. مرعب.

( 17 )

احتونا المكان الضيق ،بعض الشئ ، حول السرير النحاس المرتفع الأعمدة ، كان ابي يرقد فوقه ، يتملكه المرض .. قالت عمتي نجية ويدها – المعروقة - تلم الملاية حول وسطها وخلفها زوجها مجاهد يجرجر أقدامه :

*تقعد بالعافية يا أبو عثمان . أن عزت حاجة شيع لي إبراهيم .. فركة كعب أكون عندك

وقف عثمان بجوار النافذة ،ونقر علي الزجاج مرتين .. قال يخاطب نفسه : " متي تطلع يا دهب .. طلعت روحنا وروح أبونا . سفخس عليها عوزة

 وكان ضوء الكلوب في الغرفة ينشر رواقة ،يظهر وجه أبي الشاحب ، انقض أبي مذعورا ، ونهض بظهرٍ مقوس ، وبصوت متقطع :

*البلاص .. البلاص .. وبعد وفاتي ب ب ب .....

 ارتعشت الكلمات في حلقه ، دون أن يكملها وصعدت روحه إلي خالقها .. رأيت – وأنا ابكي علي قبر أبي – أحلام عثمان التي دمر بها رأسنا تعلن عن حريتها .. كانت جنازة أبي أشد الجنازات حزناً – في نفسي – في تاريخ البلد

( 18 )

سرعان ما كان العراك ينشب بيننا وبين عثمان .. في كل مرة تبدو وكأنها المعركة الحاسمة .. ثم يسود الصمت بيننا .. وكأن شيئاً لم يحدث .

( 19 )

تدلت الفوانيس علي وجهات الدور القابعة فرادي ومتجمعة ، وراحت ظلال أكوام الحطب ترسم أشباحا فوق الأسطح .. جلسنا حول " القروانة " نستشعر الدفء .. نهض عثمان ، وأخذ يمشي في صحن الدار وبصرنا معلقاً بخطواته ، ننتظر قراره .. لن نختلف عليه حتى نرتاح من " وش الدماغ " الذي عيشنا فيه عثمان بعد وفاة أبي ، علي غرة ، كادت رأسه تخبط في " كمرة " السقف من قفزته : " الله ينور عليك يا عثمان يا أبو الأفكار .. نهض أخي الوسطاني " محمود " يستفسر فأشار إليه عثمان بقلة أدب :" اترزع علي حيلك أنت شرابة خُرج .. لا مودي ولا جايب " ..

 فجلس أخي في ركود .. حزنت علي كسفته .. فقلت بحرقة :

(( لم الدور يا عثمان وهات من الأخر بلا قلة أدب ))

وقف عثمان بجوار " قطاوي " الحمارة. كانت يده تعبث في شعره الأكرت يعض علي سبابته ، واتسعت أساريره ثم قال :

* لقد قال أبوكم وهو بيموت : بعد وفاتي ..... وسكت .. ولم يقل بعد رؤيتي بالمنام . أو بعد كام سنة .. كما فعل المعتوه جدكم .. سنفتح البلاص الليلة دي

( 20 )

هبت رياح عاتية ، كان قد انقضي الثلث الثاني من الليل ولاذ الناس بدورهم يختفون من البرد القارص ، في هذا الوقت كانت الديكة تهلل فوق أسطح الدور وصوت " الدركي " المكف بحراسة البلدة يعلو بين الحين والأخر بصوته الجهوري : " هااااااااااه مين هناك ؟

 رأيت النور يهز الظلمة ، ونحن نتسحب خلف عثمان كالمطاريد تمتمت بعد تعثري في فرع شجرة جرح قدمي "منك لله يا مكفي !

" الحجاري " الحديد يهتز علي كتف عثمان ، وأيدينا ترتعش وهي تقبض علي المقاطف الزعف ، حاولنا بكل جهد أن نتحسس الطريق ، حتى لا يشعر بنا " الدركي " وتختفي أجسادنا في ظلال الأشجار المتشابكة .

( 21 )

أشرف الليل علي الزوال أو أوشك.. لحظتها .. كانت أبواب البيوت مفتوحة لا تنغلق إلا في ساعات الليل الأخير ، وغبشة الفجر تلوح في الأفق ، وفئران دار جدي تهرول بين الفرن وصومعة الغلال المهجورة ، نقرب الفانوس من الموقع ، اشعر أن كل شئ كان معداً لمجيئنا .. كان وجه عثمان ملتهباً في الضوء الخافت ، أشار بإصبعه : " هنا .. هنا " .. كان الوقت يمر بطيئا ، بعد هدم الفرن والرياح الباردة ، تعصف بضلفة الشباك ، فاهتز ضوء الفانوس فتراقصت محتويات الدار تصنع أشباحا ، تلبشت أبداننا عندما ارتفع صوت نباح الكلاب من بعيد

هب عثمان واقفاً ، وأخذنا نحن جانباً ليس ببعيد ..علا صوته ويده تهوي ب" الحجاري "علي البلاص " يا هااااااااااادي " فانفلقت نصفين .. وتناثر منها طميا لدناً ، وتلطخت ملابسنا ووجوهنا ثم صعدت رائحة كريهة ، وخرج خلفها أسراب من الديدان ، التي أخذت طريقها إلي أقدامنا .. صرخ عثمان محملقا فينا ، وأنفاسه تتهدج كمرجل يغلي :

* أيه الفقر ده ؟ طين معفن ودود !! أبونا مات بلاش وأحلامنا ماتت قبل ما تولد ..

شعرنا جميعاً بخيبة ، فالمشهد كان أسرع من أن تستوعبه عقولنا ، وأصابنا الغثيان ، ورحنا نتقيأ ونستند علي دعامات الدار الآيل للسقوط .. مرت لحظات ونحن نتحسس أبداننا ولفنا الصمت ..

 وبعد أن وهن الليل ,, سري صوت " الشيخ عليان " معلنا عن صلاة الفجر .. غمغمت وأنا ارمق أخي عثمان وقد حل به الإرهاق وتدلي شاربه :

* يا جماعة ليس هذه ما كنا نبحث عنها ، أتذكر يا عثمان كلمة جدي لنا وهو يموت عندما قال : هناك بلاص برقبة وليس لها ودان ، ولكن ما وجدناه بلاص برقبة ولها ودان!!

سري دبيب الرعشة في عثمان ، وقد شمخ برأسه قليلاً ، وراح ينظر في هدوء ووقار ، واحتوته مشاعر الإذلال .. ثم استيقظ علي صياح الديكة .. وسرت رائحة مألوفة تحمل بقايا أنفاس الليل .. لحظتها .. بدأت القرية تتمخض عن يوم جديد .

               

* أيمن عبد السميع حسن حسين

***تاريخ الميلاد 28/2/1976م

*** العنوان/ مصر.. سوهاج.. أولاد نصير

*** الوظيفة الحالية :

*** مدير الشئون الإدارية بمديرية الصحة بسوهاج حتى الآن

*** الوظائف السابقة:

(1)- مفتش أغذية من عام1997 حتي عام2004

(2)- مدير شئون العاملين بمستشفي سوهاج العام من 2005 حتي 10/2010

 ***وظائف أخرى :

***أخصائي تنمية موارد بشرية معتمد من وزارة الخارجية المصرية وأكاديمية تراست للبرمجيات

*** النشاطات المجتمعية والأهلية :

***منسق باللجنة الفرعية بالجمعية الشرعية بسوهاج

*** عضو بجمعية أصدقاء المرضي بسوهاج..

*** عضو بجمعية مكافحة التدخين

***المؤهلات العلمية:

 (1)دبلوم المعاهد الفنية الصحية بسوهاج ( شعبة الأغذية)..1996

 (2)كلية التجارة جامعة سوهاج ( شعبة محاسبة ) 1995

(3)دبلومة الدراسات العليا( المحاسبة والإدارة).. من جامعة ( ولدن الأمريكية)

*** مطبوعات :

 مجموعة قصصية(أحلام)2009م

 *** تحت الطبع :

*** رواية (علي هامش القادسية)

*** رواية ( الامام المؤسس )

*** دراسة بحثية(الصيدلة تاريخ وتأريخ)

 *** النشر( قصص قصيرة ودراسات تربوية ولٌغوية) بالصحف والمجلات :

(1) مجلة (الوعي الاسلامي )الكويتية

(2) مجلة ( المجلة العربية ) بالسعودية

(3) مجلة ( منار الاسلام ) الاماراتية

(4) مجلة ( الثقافة الجديدة )

(5) مجلة ( الأدب الاسلامي )

(6) مجلة (التقافة الشعبية) البحرانية.. النسخة الالكترونية

(7) جريدة( أخبار الأدب)

(8) جريدة ( الأهرام المسائي)

(9) جريدة الجمهورية)

(10) جريدة ( المواجهة)

(11) جريدة(صوت سوهاج)

(12) مجلة الجوبة

(13) مواقع انترنت مختلفة........

*** الجوائز المركز الثاني علي مستوي الجمهورية في القصة القصيرة بمركز رامتان الثقافي

( متحف الأديب طه حسين) عام 2007م