فلتُكسر كل الأقلام!!

خديجة وليد قاسم (إكليل الغار)

وسط موجة التصفيق الحار ، وجد نفسه كمن يغالبها ليرسو على شط النجاة والأمان ، شعور غريب خامره وهو يواجه تلك الجموع الغفيرة من مختلف الفئات والأطياف ، وبدلا من إلقاء مرساته على شطه المأمول ، غاص في عمق تلك الموجة هربًا من شيء ما لم يدرك كنهه أو يعرف سرّه بعد ، سحبته أفكاره بعيدًا وأركبته على جناحيْ حروف من صدق صاغها .

لحظات قليلة ،  شعر بعدها  بلفح رياح باردة قاسية حيث حطّ رحاله ، لاحت  أمامه خيمة بائسة تسحّ دموع ساكنيها على صغيرتهم التي لم تكمل عامها الثاني بعد ، طفلة احتضنها البرد بعد أن تخلى عنها بنو جلدتها ودينها ، بعد أن أدار لها العالم المنافق ذو الوجوه المتعددة ظهره وهز كتف اللا مبالاة ومضى  .. لم يتمكن جسدها الغض من احتمال ما يعجز عن احتماله الكبير !! أسلمت الروح وهي تجأر لباريها وتشكو له حال بلادها ومآسيها !

لم يصمد أمام نظرات والدتها الكليمة التي كانت تصرخ بألف عتاب وعتاب رغم صمتها المستكين ، أشاح بنظره عنها وحدّق بحروفه  كأنه يلومها على قصورها وقلة ذات يدها حيال ما رأى ..

أغمض عينيه علّ بعض راحة تتخذ سكنًا لها في قلبه المعذب وضميره المضطرب ... وأنّى له ذلك وقد أخذته حروفه مرة أخرى ليشهد صورة من صوره الشعرية يعاينها حقيقة لا مدادًا ينتشر بعشوائيته التي لا تدرك سبيلا ولا تبصر دربا منيرا!

أنهار من دم تلوح بكارثيتها أمام ناظريه ، يعتلي أمواجها الثائرة  قارب يتمايل راكبوه ذوو القمصان الزرقاء فرحاً ونشوة ، يلوّحون له بكل صفاقة وسخرية وشماتة ، استفزته ضحكاتهم القبيحة ، أثارت اشمئزاره أنيابهم السوداء الطويلة ، صفعته  نظرات غدرهم ومكرهم وحقدهم ..

غطّى وجهه بكلتا يديه ليتخلص من مرأى وجوههم الكالحة ، ومضى يلوذ بالهرب بعيدًا عنهم .. فما كان منه إلا أن تعثّر بأشلاء ملقاة هنا وهناك،سمعها رغم انتزاع حياتها تلعن الإنسانية الكاذبة التي لا تبصر إلا بقدر ما تحب ، ولا تسمع إلا بقدر ما تشاء ، ولا تتقن لعبةً أكثر من مدارة الظالم والاقتصاص من المظلوم  ...

تنّهد بحسرة عميقة ، والآه تلو الآه تكاد تخنقه حتى تسلل الليل في غفلة منه وأطفأ سراج النهار الراحل ، مدّ يد العجز نحو مفتاح الكهرباء المتمرد ، فلم يجد سوى قهقهات الليل تسخر منه ومن قلة حيلته ، لم يرَ وسط حلكته أكثر إضاءةً من عورات العرب التي تكشّفت أمامه بوقاحة لم يعرف التاريخ أبشع منها وأقبح جحودًا ونكرانًا وقسوةً وموتَ ضمير!!

بدأت حروفه تتراجع إلى الخلف بعد أن شعرت أنها مجرد قزم أمام عملاق البؤس ووحش الجبروت والطغيان المستبد ، أصابه الفزع لابتعادها ، فهي كل ثروته في هذه الحياة  ، أخذ يركض وراءها في محاولة للإمساك بها ، ركض وركض هو وعجزه وشتات فكرهِ وقلبهِ ، إلى أن وجد نفسه يقف على أسوار مسرى حبيبه وقد حان وقت صلاة الفجر التي ينتظر مثلها فجرًا وليدًا هانئًا لأمّته ، ولكن ، أنّى لابن الأرض أن يضع جبهته على أرضه يناجي ربه ويشكوه كربه وهمه !!

أرضه التي باعها من لا يملكها بثمن بخس فاستباحها الأنجاس يخطرون عليها جيئة وذهابا ،تحت ملء سمع وبصر دويلات العروبة والإسلام  التي لا تستيقظ ضمائرها وإنسانيتها إلا بأمر أسيادها وأرباب نعمها ، ثم تعود لتغط هانئة ناعمة في سباتها العميق .

حاول قطع سلسلة أفكاره علّه يرتاح من هذا الألم الفظيع الذي يكاد يخنقه  ، فما كان إلا أن توالت مشاهد أخرى أخذت تمر عليه الواحد تلو الآخر وكأنها تتنافس في بشاعتها وفظاعتها .

شعر بأصابع العجز تعصر رقبته تختقها ، وبقيود الضآلة تكبّل معصميه تكاد تكسر بنانه الذي طالما كان  سلاحه الذي يحتضن قلمه الحر الغيور به يريح ضميره  وعبره يعلن  على الذل حربه وجهاده .

إحساس بالنقمة في داخله تفاقم كبركان لم يستطع كبح جماحه ، ودون وعي ومنه ، دوّت صرخة جامحة من أعماقه :

فلتسقط كل الأقلام

فلتمت كل الحروف

بهتت الأكف المصفقة ، وتوقفت في دهشة لتنوب عنها النظرات تحدق بحيرة وتساؤل في وجه الشاعر الثائر  ..

أشاح بوجهه عنهم ، وأجهش بالبكاء.