حلوى الشهيد

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

التقيته أول مرّةٍ فتىً يافعا ُ بوجود والده، وهو يقدم لنا ضيافة الشاي تحت "البرندا" في بيتهم العربي المتواضع، تطلّ من فوق مصطبته العالية فتشرف على الشارع الذي أمامه، وترى جماعات الغادين والرائحين من شباب الثورة يحملون بنادقهم متحزمين بشرائط الرصاص، وأصوات أحاديثهم العذبة تلامس أذنيك، فتبث فيك جرعة من الحيوية والحماسة، ويمتد بصرك نحو الأفق يتأمل جمال الطبيعة وبهجتها بأشجارها الخضراء الداكنة، وجبالها الشماء المرتفعة التي تعانق زرقة السماء الصافية في شهر أيار.

كان شاباً في مقتبل العمر يتقد حماسة ويتفجر حيوية ونشاطاً، طويل القامة، متناسق الأطراف ، تزينه بشرة بيضاء مشربة بحمرة، في جبينه بهاء وفي عينه حسن ودعج، ووجهه الوضاء يفيض بشراً ويشع نوراً بلحية شقراء ناعمة خفيفة، يبدو أن الموسى لم تلامسها ، وشعره الأشقرالطويل المسترسل يضفي عليه وسامة وجمالاً فوق حسنه وجماله .

  كان طالباً في بداية دراسته الجامعية، التحق بالثورة وشارك في مظاهراتها السلمية منذ أيامها الأولى، ثم التحق مع شباب الثورة ورجالها ليدافع عن استفزازالأقليات من المستوطنين، واعتداءات مرجعياتهم المحتلين .

بعد سنة أو يزيد بعد انطلاقة الثورة، بلغنا خبراستشهاده في معركة مع قوات الاحتلال المجرم الغاشم، الذي أمطر كتيبتهم بوابل من البراميل المتفجرة، فاصطفاه الله شهيداً مع ثلة من إخوانه الأبطال .

عندما بلغني الخبر شعرت بأسىً شديدٍ وحزن انقبض له قلبي، وأصابتني غمّة عكّرت عليّ سعادتي، وإن كنت أؤمن في أعماق قلبي بغبطتي باستشهاده ... فما عند الله خير وأبقى، وما اصطفاه الله إلا لصدقه وإخلاصه فأكرمه بوسام الشهادة ... وتخيلت حزن أهله عليه وخاصة والده، فهو رجل بسيط حساس ، تغلب عليه شدة الانفعال ورقة المشاعر وجيشان العاطفة، ويتأثر بكل ما حوله.

 بل والحقيقة كنت أظن أبعد من ذلك ... كنت أظنه رجلاً عاطفياً خوّاراً ، ضعيف النفس هشّ الإيمان، فقد توقعته أن يخرج عن طوره، وربما يندم على قيام الثورة وانخراطه بها، وتشجيع ولده على الالتحاق في صفوفها، ويعلن عن توبته وتبرئه منها ! .

انطلقنا نحن الثلاثة إلى صيوان العزاء الذي نصب أمام بيتهم لاستقبال المعزّين، وما إن اقتربنا من الصيوان حتى أقبل والد الشهيد علينا يرحب بنا بحفاوة ويعانقنا، وابتسامة نورانية تعلو وجهه السمح، ولسانه يلهج بالحمد والشكر لله أن اصطفى بكره الغالي شهيداً في سبيله، مقبلاً غير مدبرفي معركة مشرفة ضد الظالمين وجحافل الاحتلال المجرمين، الذين جمعوا حشودهم وميليشياتهم الطائفية ليهاجموننا في ديارنا لأجل نصرة طاغوت مجرم .

شدّ ذلك من عزيمتي ورفع مستوى معنوياتي، فتحولت كلماتي من تطييب خاطره ومواساته، إلى تهنئته بشهادة ذلك المجاهد البطل الشجاع الذي اصطفاه الله إلى جواره، عساه أن يكون فرطاً لأهله وشفيعاً لهم يوم القيامة.

طاف علينا أخوه مصعب - المجاهد الأصغر-  بالقهوة المرّة مع التمر، حتى إذا انتهى من مهمته، غادر مجلس العزاء بعد أن همس والده قرب أذنه بكليمات لم نتبينها، وبينما كنا نتجاذب بعض أطراف الحديث عن الجهاد والشهادة ومكانة الشهيد عند ربه، ويروي لنا والده حكاية استشهاده ...

دقائق معدودة مضت وإذ بمصعب الذي غادرنا قبل قليل، يحضر على وجه السرعة ومعه الضيافة من البوظة المثلجة، ( الآيس كريم ) ثم يطوف بكؤوسها علينا يوزعها ... فأبديت اعتراضي وتوجهت بحديثي إلى والد الشهيد قائلاً له :

- نحن في مجلس عزاء ولسنا في زيارة لتقديم الضيافة أو الاحتفال بنا والاحتفاء .

فأجاب بهدوء:

- وهذا من مراسم العزاء عندي خاصة مع هذا الجو الحار ... ثم استأنف مكملاً حديثه يصف لنا المعركة التي استشهد فيها فلذة كبده .

اضطرينا للامتثال لرأيه، وقبل أن ينتهي من حديثه  دخلت مجموعة من المعزّين، فضاقت الكراسي المصفوفة في الصيوان قليلاً بهم، وأردنا أن نفسح لهم المجال فاتجهنا إليه نستأذنه بالانصراف ... فعدا أنه مجلس عزاء فنحن أيضاً لدينا مشاغل وأعمال ...

أشار بيده نحونا بهدوء :

- اجلسوا قليلاً لو تكرمتم  .

- لا تملّ جلستكم وواجب الشهيد علينا غالٍ ومقامكم كبير ... ولكن حبذا لو تسمح لنا بالانصراف ... لنفسح للمعزين و...

- المكان واسع ... وهاهم الشباب سيحضرون الكراسي فلا مشكلة في ذلك .

- نعود مرة أخرى إن شاء الله .

- أرجو أن تنتظروا قليلاً فالضيافة لم تنته بعد .

أجبته بدهشة :

- نحن في مجلس عزاء ... وليس حفل تكريم ... فماذا بعد ؟ !

- الحلويات في الطريق !

- أية حلويات ؟ !

- ضيافة الشهيد ! . 

- نحن في مجلس عزاء ... أرجوك ! .

- ألا ترغبون مشاركتي في هذه الفرحة بزفاف الشهيد إلى ربه ؟ وهل تظنون أن الحلويات هي لأجلكم فقط ؟ .

لقد آليت على نفسي توزيع الحلويات فرحاً باستشهاده قبل دفنه مع حزني وألمي لفراقه، وها هو ذا اليوم الثالث للتعزية ... وهو اليوم الثالث الذي أوزع فيه الحلويات على روح الشهيد !!!

التزمنا الصمت، وجلسنا مضطرين امتثالاً لرغبته، وإكراماً لابنه الشهيد ...

أخيراً بعد أن أجبرنا على تناول ضيافته من الحلوى فرحاً بزفاف الشهيد إلى ربه، سمح لنا بعدها بالانصراف وهو يلاطفنا ويداعبنا ويدعو لنا، ويطلب منا أن لا ننسى فقيده الغالي وبكره من الدعاء.

 شدّ على أيدينا مودعاً وأنا أنظر إليه بدهشة كادت تفقدني صوابي، لا بل تعيدني إلى صوابي وأنا أنظر إليه كبطل عظيم من جيل الصحابة.