اعتقال

اعتقال

حماد صبح

أحصاهم فألفاهم ثمانية هو تاسعهم  . كلهم شبان في زهرة عمرهم سوى واحد بدا في الأربعين . يسيرون صامتين كأنهم في جنازة عزيز مات فجأة . يرى الجندي الذي يتقدمهم . ويسمع خطوات الجنديين الآخرين وراءه . سلاحهما أقرب إلى ظهره من بقية الثمانية الذين يعرف أكثرهم معرفة شخصية ، وتربطه بأحدهم صداقة وثيقة وزمالة عمل . هو آخر الموكب الصامت الذي لا تخبر عن وجوده سوى وقعات خطاه . ينبش عن سبب اعتقال الجنود الإسرائيليين له فلا يجد ه . ربما لصلة اسم عائلته ببعض قرابته المطاردين من سلطات الاحتلال . ينبش في صفحات من يعرفهم معرفة وثيقة ممن اعتقلوا معه فيجدها خالية من مسوغ الاعتقال . لماذا اعتقلوهم إذن ؟! اختاروهم من ركاب سيارات كثيرة اعترضوها في حاجز مباغت شرقي مستوطنة كفار داروم ، في الطريق الوحيد المسموح به للمنطقة للاتصال ببقية قطاع غزة بعد أن أغلقوا كل طرقها المفضية إلى الجزء الذي يحاذيها غربا من شارع صلاح الدين. بقيت حقيبته _التي يودع فيها كل ما يلزمه مدرسا للإنجليزية _ في السيارة . سيعيدها السائق إلى أسرته . عودتها وحدها ستصدم زوجته . لو يستدير عاصفا ويلكم أحد الجنديين في وجهه ! لو لم يكونا مسلحين لقهرهما في عراك الجسد للجسد . كور قبضته اليمنى . إنهما قريبان منه . طوله الفارع يواتيه لركل أحدهما في بطنه دون أن يلتفت إليه ركلة صارعة . لكنه السلاح . لن يكسبه  فعله شيئا حاسما . سيقتلونه فورا . بأي حق يذلنا السفلة الأخلاط ؟! تجاوز الموكب صف البيوت القليلة ، وانتهى إلى أول الحقل الذي يفصل المستوطنة عن تلك البيوت . الحقل أرض حظر الاحتلال  زراعتها على أصحابها من أهل تلك البيوت  . إنها الآن ، في يناع  الربيع ، عشباء خضراء تفرقت في أنحائها خمائل نبت برية متباينة الأطوال والأشكال ، بعضها شائك ، وزخرفتها ألوان من مختلف الأزهار . من برج حراسة في سياج المستوطنة علت صيحة لم تذكر منتصر إلا بزعقة حادة لبومة ، رد عليها الجندي الذي يتقدم الموكب بكلمة واحدة : حبلانيم ( مخربون ) . تمتم منتصر : خرب الله قلبك يا شيطان !

اقتيدوا إلى وسط الحقل ، وأمرهم الجندي الذي كان يتقدمهم بالجلوس مشبوكي الأيدي حول الرقاب ، خافضي الرؤوس . تمتم منتصر : ذل ! قهر !

وقف نفس الجندي وراءهم ، وسارع الجنديان الآخران بالجلوس على ركبة ونصف ، ووجه أحدهما سلاحه جنوبا ، ووجه الآخر سلاحه شرقا، في تهيئة قتالية . استغرب منتصر  فرط الحذر الذي جسدته تلك التهيئة ، وعده مهارة عسكرية . إنهم يتوقعون الخطر حيث الأمان التام .

ماذا سيفعل رجال عزل في مكان يبدو منعزلا ؟! عاوده السؤال : ماذا يريدون منا ؟ مستبعد جدا أن يقتلوهم . قد ينقلونهم لمكتب الاستخبارات في المستوطنة . قد تسقط بين أيديهم معلومة ما خلال الاستجواب الذي يوجهون في نهايته  تحذيرات مشفوعة بادعاء قدرتهم على معرفة كل شيء عمن يحذرونه، ويختمونها بعبارة شهيرة :" دير بالك على حالك ! العاقل ما بيلعب بالنار"  . الموقف مرير محزن طافح  بالألم والقهر ، ويتضاعف شعور منتصر بالمرارة والحزن والألم والقهر حين يستعيد الأسلوب الذي استوقف به الجنود الناس بعد إنزالهم من السيارات . أمروهم بتعرية بطونهم حتى الصدر ليأمنوا أنهم لا يحملون أي سلاح . وشرع جندي ينادي أسماء من كشف . من نودي اسمه سحبت هويته وأمر بالوقوف في مكان منفصل عن بقية المستوقفين . سحبت تسع هويات . وكان الجنديان الآخران يصوبان سلاحيهما إلى المستوقفين في جاهزية متحفزة لا يستبعد من يرى علاماتها أن ينطلق الرصاص لأصغر لمسة زائدة على الزناد حتى دون إرادة الجنديين . يستعيد منتصر تحرك قدمي أحد الجنديين ارتفاعا وانخفاضا كأنه يسوق دراجة . لا ريب في أنه كان مضطربا قلقا ، لا ريب في أنه كان متخوفا ، يتحسب من أن يفاجئه أحد المستوقفين بانقضاضة ولو بسكين ، أو أن يقع هجوم من خارج المشهد كله . دائما تعتورهم  تخيلات الخطر مهما كان الجو مأمونا .الشمس ربيعية ، لكنها محترة . أحس منتصر تعرق وجهه ويديه . ود لو يرفع رأسه لاستنشاق بعض الهواء حرا. وفاجأه صوت ضربة قدم على ظهر معتقل دانٍ منه ، أشقر ظاهر البدانة . المسكين ! لعله رفع رأسه رغبة في التنفس الطليق . غمغم منتصر مختلسا النظر إلى الجندي الذي ركل جاره : لعنت يا سليل أبرهة ! شبعت في فلسطين يا جائع يا ابن الشبح الجائع !

إنه من الفلاشا فاتح السمرة . يتردد السؤال في قلب منتصر : ماذا يريدون من اعتقالنا؟!

انقضى أكثر من ثلث ساعة . لو كانوا ينتظرون سيارة تأخذ المعتقلين إلى داخل المستوطنة لقدمت بعد دقائق من بلوغهم وسط الحقل . أخذ الجندي يتكلم في جهاز الاتصال الذي يحمله . وما قال كلمات حتى ، كأنما في فيلم عنف أميركي ، انهمر الرصاص على الجنديين من وادٍ صغير ضيق يوازي الحقل من الجنوب . سقط الجندي المنتحي شرقا يصرخ ويضطرب ، وفر زميله مغربا معقوف الظهر يكاد يلاصق الأرض، ويرد على  الرصاص ، وفعل الجندي الثالث فعله ، وشارك جندي البرج في الاشتباك ، وطار المعتقلون سرب يمام متفرقين ومتقاربين ، والتطم الأشقر السمين بأحد الطائرين ، وسقط على كتلة نبات شائك ، فشده أحدهم في نخوة وشهامة تعزان  في مثل هذا الموقف ، فقام وواصل جريه الثقيل الذي بدا أقرب للتدحرج التلقائي منه للجري المقصود . سكن الرصاص ، واشتد ثانية . أكثره يأتي من الوادي ، من المقاومين . وسكن ثانية من الطرفين . وعندئذ كان التسعة بلغوا الطريق لا يصدقون أنهم سلموا .ومن هناك تبعثروا في وجهات منوعة بعد أن صاروا محجوبين بالبيوت والأشجار التي تحاذي جانب الطريق الغربي من جهة الحقل والمستوطنة .وبعضهم رمى نفسه في ما وقف لهم من سيارات وافية الركاب . وفي البيت ، تنبه منتصر ، مثلما لابد أنه حدث مع البقية ، إلى أن هويته بقيت مع الجندي الأسود . مشكلة كبيرة ؛ فهو من مواطني المنطقة "ب " التي تسيطر عليها إسرائيل أمنيا وفق التقسيمة الإدارية والأمنية التي أقرت في أوسلو . قد يأتي الجنود الإسرائيليون إلى بيته ليلا ويعتقلونه ، ويفعلون نفس الفعل مع بقية المعتقلين الناجين . كلهم من مواطني المنطقة . وبينما كان بين مهنئيه بالسلامة من الجيران ، رن هاتفه النقال . صوت صديقه وزميله في المدرسة محمد . وبعد التهنئة المتبادلة بالسلامة ، قال محمد : هويتك عندي !

فسأله مندهشا مغتبطا : كيف ؟!

_ سقطت الهويات من الأسود أو هو رماها . كانت قريبة لي فغرفت سبعا منها .

_ وهويتك ؟

_ ليست بينها .