الغربة

عبد الزهرة لازم شباري

[email protected]

ما زال حصان تفكيره جامحاً بين السواتر المتشابكة على الدروب

المزينة بالورود على طول الطريق المؤدي إلى مدينة الضباب المحفوف بالأشجار والزهور المنتشرة في كل مكان بأشكال متناسقة ، دائرية ، وعلى أشكال وروائع هندسية أخرى مربعات ، مثلثات جميلة تملأ القلوب أكثر بهجة وسرور !

لهاث أحلامه المنطوية على معرفة الكثير من مشاهد هذه المدينة التي كان يسمع عنها من أفواه الزائرين لها !

يلتحف بمعطفه المطري منطوياً على نفسه في المركبة التي تقله إلى هدف غير معين ، نظراته لا تكاد تفارق ما يراه من مشاهد جميلة وعمارات عالية تناطح السحاب في علوها ، يريد أن يلتهم ما يراه فاغراً فاه عجباً وتألماً ، يردد مع نفسه تائهاً هذه هي الحياة هنا ، وهذه كرامة الإنسان ، أليس الحاكمون هنا منهم ؟

من هذه المدينة ومن أهلها ؟

يتدينون بدين واحد ويعبدون رباً واحد ،

فهل يوجد هنا معنى آخر للإنسانية لا نفهمه نحن ولا الحاكمون عندنا ؟

ألسنا بشراً مثلهم ؟

أين المفكرون ؟

وأين ثرواتنا وبحار الذهب الأسود ومزارعنا ونخيلنا ؟

ألا تمكننا أن نكون مثلهم على قدر قليل من هذه السعادة ومناخات الإنسانية التي يتمتعون بها ؟

ذاهلاً يردد أسئلته الخاوية مع نفسه وهو يعلم أن لا وجود لأي جواب عليها ، يعلم أنه لا وجود له في الوجود أيضاً ، شعب يتمطى كل يوم بحالات البؤس والفقر ، يتخبط في الظلام الداكن ، ينام على دربكات وأصوات المدافع وأزيز البنادق ، ينام ويرقد على التعامل اللاإنساني من لدن الحاكمون في بلاده وأتباعهم والعاملين معهم !

ينتبه إلى سائق المركبة وهو يقول له هيا يا أخي ترجل حتى أكلم لك صاحب هذا الأوتيل ، إنه عربي منكم !

ترجل معه ، مسلماً عليه وهو يستقبله بحفاوة سائلاً عن أحوال بلده هناك ، في حين أنشغل العاملون برفع أمتعته إلى غرفته الخاصة ، يسترخي على سريره مستسلماً لنوم عميق ، لائذاً بروحه من هيجان وأصوات المركبات وضجيج الزائرين لهذه المدينة الجميلة التي بدت له كلوحة نصبت على جدار معرض فني !

في الصباح التالي فتح عينيه على خيوط الشمس الذهبية التي تسللت على غرفته من خلال النافذة المطلة على الشارع الجميل ، يرى الناس تؤدي طقوسها الصباحية بحركات رياضية رشيقة ، متعجبا إنهم كبارًا ، نساء ً ورجالاً ، شباباً وصغار !

مشغولون لا يلهيهم أي شيء ، بمرح وسرور يتفكهون الصباح لتأدية هذه

الطقوس الجميلة ، يسأل نفسه أليس نحن بشراً مثلهم يا إلهي ؟

أكل يوم يؤدون هذه التمارين وهذه الحركات ، أم في هذا اليوم الذي أتيت به إلى هنا  ؟

من يعيرني معرفة هذه الأعمال ، لا شك سأرى الكثير منها والممارسات المفقودة عندنا ، سأحمل معي الكثير الكثير منها  !!

من بعيد وعلى مسافة من غرفته الكائنة في الطابق العاشر من الفندق الذي يقطن فيه ، يتراءى له جبلاً مغطى بالأشجار والحشائش البرية الكثيفة والأزهار الزاهية ،

يمتد به نظره من الأعلى إلى الأسفل ، ومن الشمال إلى الجنوب ، أنه وسط المدينة شامخاً بقامته ، يسد على ما أرى جميع الجهات المؤدية إليه !

داخله شعور غريب بالصعود عليه ومعرفة ما يدور حوله ، ولكن كيف وأنا لا أهتدي إلى الطرق المؤدية إليه ، يصمت ، لا بأس سأراه حتماً يرددها مع نفسه !

تنفرج أساريره بالتفاتة حذرة ، ممسكة به تؤدي تحية الصباح بوجهها الجميل الساطع ، ترتدي قميصاً شفافاً بلون الورد ، أراك غارقاً بالتفكير ، هل تذكرت أهلك أم ماذا ؟

إنه فندق وليس كما تصورت سنرى معالمه معاً ، يصمت بعجب شديد ، مردداً أكل هذا فندق ؟ لكن أين أبوابه ، ومن أين الدخول إليه ؟

سنرى  ... سنرى غداً إن شاء الله تعالى !

تمد يدها تصافحه قائلة (( حلم )) يندهش قائلاً ماذا ، أي حلم ؟

أسمي (حلم ) !

آه .. نعم .. نعم تشرفنا ، وأنا أحمد !

الصباح خريفي وارتعاشاته تبدو على الأجساد ، في حين أغصان الأشجار الممتدة على طول الشارع تترك آثارها على النفس ، لاهتزازها وتمايلها جذلا مع الريح الباردة ، ثمة ابتسامة ندية ترسمها على جبينها المتورد ، وارتعاش يديها عندما ألقت تحية الصباح ، يشعر بالوهن، بدت له أول وهلة وهي ترميه بنظرات حادة وتلقي عليه رذاذ حبها المفاجئ مع انطلاق الصباح الباكر !

يرسم على وجهه ابتسامة بلهاء غامضة بدت موشحة بالإحراج ، كان خجلاً يسيطر عليه أرتباك واضح وارتعاش بان على يديه ، في حين بدا متلعثماً لا يستطيع الكلام والرد على فورانها وإلقاء أسألتها التي تبدو له وكأنه في قاعة الامتحان !!

سارا معاَ في شوارع المدينة ولأول مرة تائها لا يدري ما يفعل ، أيداري إحراجه من حلمه الذي بدت له كلوحة رسام مبدع وهي تلفه بكفها الناعمة الندية ، وتكتنف ما تضج به كينونته السابحة بضجيج عوالمه المعذبة وذكراه البعيدة إلى أهله وناسه في بلده السابح بآثم الحروب والاضطهاد ، وتميط لثام الغربة وأقنعتها ، أم يتفرغ كي يرى ما لم يره في سني عمره وهو يسير في مباهج مدينة الضباب ( لندن ) !

تسير إلى جنبه يداعب شعرها نسيم الصباح ويعبق شذاه على وجهه الكالح ، يحس بخفقان قلبه الذي يدق بين جوانح صدره المرتبك والذي ضاعت منه كل مفاتيح الكلام ، حتى بدا لا يستطيع الرد على أسئلتها ويداري ذوبان هذا الاضطراب الذي أكتنفه !

تبتسم بوجهه المبتل عرقاً وتضغط على يده بحرارة محاولة منها لفك الإرباك الذي بدا واضحاً عليه !

تهمس بغنج ودلال : أنك هادئ بسيط  ، يبدو لي أنك تطبعت بطابعك الريفي ؟

أليس كذلك ؟

يهز رأسه بالإيجاب وهو ما يزال مطرقاً أمامها .

هل أحببت هناك ؟

يقطع عليها الكلام بكلمة أبداً !

تعانقه من جديد لتكمل مشوارها معه في الذوبان بين كتل الأمواج الخريفية الباردة وشذا الفاتنات في شوارع المدينة المكتظة بالزائرين !!