أحافير التحول

د. أسعد أحمد السعود

د. أسعد أحمد السعود

مسح قطرات العرق المتساقطة من على جبينه المتجعد ، ثم مرر يديه على لحيته البيضاء المنسدلة على صدره وكأنها شلال ماء رقراق يتدافع مع بعضه ويتساقط من علا جرف عال . تنهد قليلاً وأخذ نفساً عميقاً ثم جرّ هيكل جسمه المتداعي الى ركنه في زاويته الحجرية تحت  قبة الموضئ ، شعر بانهاك قوي يعم بدنه وبالرغم من قطعه المسافة بين بيته القديم والمسجد بهذا التواتر المنتظم منذ سنين مضت إلا أنه اليوم أحس بتعب غريب يسيطر عليه ولم يكد يصل الى ركنه حتى ظن أنه قد استنفذ كل طاقته .

جلس تحت القبه في وسط الجهة الجنوبية من صحن المسجد يستظل بها من أشعة الشمس يتلمس بعض البرودة من صنابير مياة الوضوء التي فارقها كثير من أصحابها منذ زمن ، اسند ظهرة على أحد أعمدتها الحجرية وراح يحدق بعينية الغائرتين وبأعمدة وأقواس وجدران الفناء الرحب الوسيع . لقد ألف احجارها حجرة حجرة منذ سنين غائرة من عمر مدينته حيث انتقلت أخبار وأحداث بناءها عن جده وأبيه وما جاءت به كتب الأثر ، وهذا المسجد وكل البيوت من المدينة القديمة ودكاكينها لا يرى فرقاً في شكل ولون حجارتها وكأن الذي بناها جميعها واحد وبيد واحده وبوقت واحد .

  لم يتجرأ صاحبه المؤذن بسؤاله عن سر جلوسه تحت قبة الموضئ كل السنين الماضية .

فكل يوم وقبل صلاة الظهر يجر شيخنا ثقل بدنه الى هذا المكان لم يفته يوم  إلاّ وهو في مجلسه هذا ، في أيام البرد القارس وفي المطر كان لابد وأن يحضره ولو لوقت قصير .

يجلس شابكاً يديه على ركبتيه ويذهب بذاكرته باسترجاع ما يحفظ من آيات القرآن أو يستطرق بالتفكير في أولاده بالبيت بالذي أًصبح خالياً وقد اشتد وصاحبه اكثر الهم خاصة في السنتين الأخيرتين فيعود بشريط ذكريات حياته حين كان رجلاً قوياً وعندما رزق بآخر أولادة حينها نذر نفسه لهذا المكان ولامامة المصلين وللتدريس فيه لا يستطيع أن يحصوها الا باقترانها بعمر آخر أولادة الخمسة والعشرين ، ولا يقظ مجلسة سوى صوت المؤذن في تكبيرات الله أكبر حي على الصلاة ويردد قوله رسول الله ( ارحنا بها يا بلال ...) ويعقب في قرارة نفسه (في هذه الايام اصبحت خطراً والله المستعان ! ).

في ايام الصيف يستطيب له الجلوس اكثر مع صاحبه المؤذن وبعضاً ممن بقي ويعرفون هذا المجلس المؤقت .

ألقى المؤذن السلام على غير عادته ومضى يمشي حافياً على الاحجار المرصوفه للفناء بالرغم من حرارتها باتجاه البوابة الصغيرة المؤدية الى غرفة الضريح من جهة صحن المسجد الغربية بزاويتها الشمالية ارتسمت علامات الاستفهام بمخيلته عن سبب امتناع صاحبه من الجلوس معه ، ونادراً ما يشاهده يدخل ذلك المكان، خمّن بأن أمراً ما سوف يعلمه ولو بعد قليل .

أخرج ساعته القديمة من جيب صدريته المربوطة بسلسلة فضية ليتأكد من الوقت نظر اليها متفحصاً وقربها من عينيه تأكد من الوقت لا زال مبكراً على موعد الاذان شعر بنقرات على اصابع قدميه الممدودتان أمامه كانت هناك بعض الحمامات قد اقتربت منه كثيراً ، ابتسم الشيخ مغتبطاً لهذه الطمأنينة التي عقدت بينه وبينها ولم يساوره شك فقط ألف كل منهما الآخر منذ سنين كثيرة ، فطن الى حاله وضمر سراً أودعه بين ضلوعه فأحسن بقشعريرة لذيذة تسري بجسده فآثرعدم الحركة وجمد في مكانة حاول تحريك أحدى يدية فلم يفلح فآثر السكون أكثر ، أزداد تنفسة وزادت ضربات قلبه حفقاناً .

لم يشعر بهذه الحالة من قبل ولكنها أصبحت تزداد ثقلاً يوماً بعد يوم تذكر زوجته الطيبةايا مرضها لقد كانت اول من فارقه من اسرته وتذكر ابناءه وبناته البعيدون عنه ، لقد هجروا المدينة الى حيث الأمان من القتل أو الاعتقال ، هم خارج الوطن أو داخله فلم يعد يعرف أين هم ..

تمنى لو ينادي بأخر أولاده ليحضنه او بوصية بالحرص والعناية بنفسة فقد كان ينتظر موعد زواجه إلا أن انشغاله واهتمامه بالأحداث الدامية اضطره لتأجيله الى حيث لا يعلم ، استغرب لخلو الفناء من أحد لم يكن ذلك مستغرباً وإنما لبعض منهم الوقت قد حل وحكم , والموضئ بجانبه لا زال خالياً ولم يرتاده احد من المصلين أبدا ، هدوء وسكون عجيبان أحسن بهما يخيمان على كل ارجاء المسجد الرحبة ، لقد غاب عنه كل شيء فبقي وحيداً حاول النهوض معتقداً أن الناس قد دخلوا المسجد للصلاة الا أن ثقل جسمة قد منعه من الحركة وعادت قطرات العرق تتوالد من جبينه ثانية وبغرازة ، استل ساعته ثانية فلم يحتمل ثقلها واحس بارتعاش أكثر في يده ، تأكد أن وقت الصلاة لم يفته ، أقتربت الحمامات أكثر وتجمعت حوله باعداد كبيرة وراحت تصدر هديلها باصوات متناغمة كأنها تبوح بأمر يخصها ، أهتزت شعرات لحيته البيضاء من نسمة مرت بها ولم يشأ سحب رجلية فقد كانتا ثقيلتان ، التصق أكثر بالعمود الحجري خلف ظهرة وثبت نفسة واوقف حركات جفنيه الذابلين فتح فاه فاغراً عن ابتسامة غريبة ، ولم يعد يشعر بما يحدث حوله في المسجد فقد غطي هديل الحمام الخائف على كل مسامعه ثم اختفى وعلت بدلاً منها صيحات وتكبيرات موجات الناس المندفعة نحو قلب الصحن واختلطت صيحاتهم مع اصوات التكبيرات من مكبرات مئذنة المسجد وأخذت تتشكل حلقة غفيره من الناس يحمل بعضهم في وسطهم جثة مضرجة بالدماء محموله على اكتافهم واياديهم  علت الاصوات اكثر واكثر وجموع وحشود المشيعين تتزاحم بقوه وصوت التكبيرات من مكبرات الصوت في المئذنه تزداد حده بازدياد حدة الانفجارات والطلقات وسحب الدخان الكثيفة علت على كل شيء ، لم يطل الهجوم والاحتدام لاكثر من دقائق ، تفرق جمع المشيعين بصورة سريعة وغريبة والجنود يطاردونهم من رواق الى رواق ومن ركن الى ركن داخل حرم المسجد وخارجة وسقط من سقط ولاذ من لاذ بنفسة وجسده بإصابته وقد خلفوا بعضاً منهم  جثثاً ، اختفت الهتافات وخبت التكبيرات فتح شيخنا عينيه ، بعدما استجمع من قوة وحياة باقية فيه ، تغلغل فيه اليقين بما حفظ من ايات الله أن الاجل دنى منه أكثر وان التحول وطد من وجودة واستشرى في الجنود فتذكرهم في صورهم الاولى ، وعادت الى مخيلته انه كان يشاركهم منذ مئات السنين في وضع الحجرات الأولى من اساسات هذا الصرح العظيم ، كانوا يوم ذاك فاتحين دعاة بناة لبيوت الله ، وها هي احافيرهم اليوم تدك وتهدم ما بناه اولئك فقد تحولوا لغزاة مطاردين قاتلين لعبّاده وحراسه ، انجلى المشهد عن صورة حزينه مؤلمة ، خرج المؤذن من مكانة الذي كان فيه اقترب يجر هيكله جراً ثقيلاً ، تعثر بجثت شاب تسبح في بركه دم يغلي ، كان المؤذن أول من جرؤ على الخروج بعدما اختفى الجنود ، كان يبحث عن صاحبه الشيخ الامام ليفشي له سر دخوله قبه الضريح الفاتح واضع حجر اساس هذا المسجد ، لقد انتهكوا حرمة كل شيء وداسوا باحذيتهم على كل شيء لم يستثنوا أي شيء جاءه ليشكوا اليه ويريه ما حل بالمسجد وبالناس والاموات وبوجهة وجسمة المتهاوي والدماء تقطر منه  كيف ألقوه ارضاً وداسوا  عليه بحوافرهم  .

أقترب المؤذن أكثر فتملكيه الدهشة في بادئ الأمر فما زال الشيخ بوضعيته وجلسته التي رآه فيها قبل الظهر ، لم يظهر عليه أي اصابة ، فرح قليلاً بالرغم من الآلام الشديده التي يعاني منها ، ناداه باسمة ليبعث فيه الامان فلم يلقى رداً نظر الى حجره وهو يشبك بيدية على حمامه آثرت الاختباء هروبا من الدخان السام الكثيف ، اقترب منه اكثر تلمس يدية ، لاقى صعوبة وصلابه وقساوة في فك تشابك اصابعه المطوقة للحمامة نقل يده ضاغطاً بها على كتف الشيخ  ثم الى الجنب فلم يلقى أي ردة فعل كانت جفناه مفتوحتان وحدقتي عينيه شاخصتان لا تتحركان، قّرب اذنه من انف الشيخ عله يحس بنفس ما ، لكن شيئاً من هذا لم يحدث اصبح يقينه واقعاً والخوف يمتلكه لأول مره وأخذ يرتعد بان الشيخ اصبح جزءاً من هذا العمود وكأنه غدا كتلة قد تحول الى قطعه من حجر هذا المكان العتيق .