مقام الاحتراق ..

محمود القاعود

[email protected]

عانى من وعكة صحية جعلته يُلازم الفراش .. دب الوهن فى جسده .. كل ما حوله يُوحي بالبرودة .. فى غرفته التى تعد بيته المستقل .. لم يكن يفتح شيش البلكونة إلا كل بضعة أسابيع .. وجد راحته فى الابتعاد .. استسلم للعيش بين الإفاقة والغياب .. وبينهما العذاب ..

ما يُذكره عنها .. هو ذلك اللقاء الذى حدث فى سنوات البراءة .. عبثا يحاول استدعاء الماضي البعيد ليدلل أن حُبها تنشأ فى فؤاده قبل الزمان والمكان !

لم يكن يعلم .. ولم تكن هى أيضاً تعلم ! جمعهما الانكسار والحزن والاحباط والاغتراب .. ها هى أمامه .. وتمد يدها لتصافحه .. مد يده بخجل  فأطبقت عليها بحرارة أذابت الجليد الرابض فوق الروح .. تحدثت عيناهما بما يُغنى عن الكلام ..

رغم وقوفه أمامها كان يعتقد أنه مجرد حلم جميل .. وخزه عفريت الشك الذى يُلازمه بجدلية " الغزالى – ديكارت" حول الشك فى الحياة الشعورية .. مادت الأرض من تحت قدميه .. لاحظت عليه ارتباكا غير ملامح وجهه .. سألها بارتياع :

- هل تقفين أمامي ؟!

ابتسمت بدهشة مغلفة بالقلق .. وقالت :

- نعم .. وأنت تقف أمامى !

غمغم بعبارات هى خليط لعنة الشك التى استقرت  بداخله .. واطمئن قليلا.. ثم أردف :

- غالبية الأشياء الجميلة تعوّدت أن أراها فى الحلم !  الواقع يصدمنى دوماً .. فهل يغلط الواقع يوما ؟! وردد عليها بيت المتنبي :

أمَا تَغْلَطُ الأيّامُ فيّ بأنْ أرَى *** بَغيضاً تُنَائي أوْ حَبيباً تُقَرّبُ

تنهدت وهى تنظر فى وجهه .. وأطالت النظر فى عينيه .. أدركت قدر ما يجمعهما .. وأن ما بينهما ليس حُباً .. إنهما روحان امتزجا ..

ساد صمت .. كان كلاهما يستجمع بعض الكلمات لهذا المقام .. الذى عاد للوقوف إليه وحيدا بعد سنوات .. انفصلت روحها عنه بعد أن أخذت أجزاء من روحه .. لتسأله روحه كل يوم عن بعضها الذى ذهب هناك حيث الاحتراق .