الحكم بن المطلب المدني، شخصية فذة

له نفس شريفة، تتحلى بأجمل الصفات، وأروع المزايا...

 وكان يجمع إلى جمال الصورة، وإشراقة الوجه، وجاذبية المنظر، كرما فياضا، جعله مقصد الشعراء، ومنتجع الراغبين، ومطلب السائلين...

 كان اسمه يتردد في مدينته: المدينة المنورة، وفي مدن أخرى من مدائن الإسلام، ويرحل إليه الراحلون الراغبون بالعطاء، ورؤية الأجواد الكبار...

 ولم يكن (الحكم) جميل الخلق والصورة فحسب، بل كان جميل الأخلاق، واسع الصدر، لطيف المعشر.

ومن أحسن أخلاقه وأشهرها بره بأبيه المطلب...

ولكن المطلب كان مشغوفا بابنه الآخر (الحارث)، وإن لم يكن بمنزلة (الحكم) في البرور والحبور...

ولم يكن هذا يؤذي (الحكم) مادام لأبيه فيه هوى، وله فيه سرور...

.............

 مرت الأيام وقلب (الحكم) لم يخفق لأحد، ولم يحن إلى شيء، ولم يشعر بما يشعر به آخرون من مشاعر تجعل ضوء الشمس على جدار بيت ما أجمل منه على جدران بيوت أخرى...

إلى أن رأى ذات يوم جارية خرجت تسعى في شأن ما، ولعلها كانت تريد قضاء حاجة لسيدها أو سيدتها...

ولأول مرة أحس الحكم أن بين جنبيه قلبا غير القلب الذي يضخ دما...قلبا بدأ يضخ حبا...

ولأول مرة أحس بسحر العينين الساحرتين، وسهم النظرتين النفاذتين...

وعاد إلى بيته، ولكن قلبه لم يعد معه...إنه الحب إذن...

وذهب غلمانه يستعلمون خبر الجارية حتى وقعوا عليها، وعلى أهلها...

وكانت ساعة موافقتهم على بيعها ل(الحكم) من أجمل الساعات وأحبها إلى نفسه، على الرغم من المال الجليل الكثير الذي طلبوه...

وفي ليلة اللقاء جهزها أهلها أحسن تجهيز ، وتهيأ هو بأجمل الثياب، وكان الناس ينتظرون لحظة اجتماع الشمس والقمر، وكاد الزمن يتوقف استعدادا لتلك اللحظات...

وقبل أن يدخل (الحكم) على جاريته الحسناء دفعه بره إلى الدخول على أبيه المطلب ليسلم عليه، ويأنس بدعواته له بدوام السعادة، وطيب العيش.....وليته لم يفعل...

دخل (الحكم) على أبيه، وكان هناك أخوه الحارث، فقال أبوه: إن لي إليك حاجة.

فقال (الحكم): يا أبة إنما أنا عبدك فمرني بما تشاء، واطلب ما تحب.

فقال: حاجتي أن تهب هذه الجارية الحسناء إلى أخيك الحارث، وأن تخلع عليه ثيابك النفيسة هذه، فإني لا أشك أن نفسه تاقت إليها...

صعق الحارث، وعاتب أباه، وغضب، فما كان لتحدثه نفسه بهذا، وما كان لينغص على أخيه فرحته، و لا ليفسد عليه حياته، ولا ليسلبه سعادته، ولا ليحول بينه وبين أمنيته التي انتظرها حتى أصبحت قريبة منه قرب الوريد...وقال: والله 

-أراد أن يحلف أنه لن يقبل- 

فبادر (الحكم) وسبقه، وقال: لا يا أخي...الجارية حرة إن لم تفعل ما أمرك أبي...

ونزع ثيابه تلك، وقدمها لأخيه...وكان ينزع قلبه معها، وخرج، ولكن قدميه لم تكونا تحملانه...

ولعله ركب فرسه، وانطلق إلى سفح جبل أحد، وجلس هناك يسامر البدر البعيد الذي حرمه البر من مسامرة أخيه (البدر البشري) القريب...

..........

 أما الجارية الحسناء المسكينة التي فجعت بفارس أحلامها الشاب الجميل، الجواد النبيل فقد انطوت على نفسها، وتأكدت أن سعادتها لم تكن سوى حلم سارب، وخيال هارب...

ولا بد أن الحارث كان يقدر لها وفاءها الصامت لأخيه...ويتغاضى عن سهوها، ووجومها، وحزنها...

..............

ولم تعد المدينة تسع (الحكم)، ولم تعد الدنيا تحلو له...فتخلى عن أملاكه ومماليكه...

وشد رحاله إلى ثغور الإسلام مرابطا مجاهدا يعرض نفسه للشهادة حتى مات بمدينة منبج في الشام في سنة 125 للهجرة تقريبا...

ولم يكن دينه يسمح له أن يرسل ولا كلمة وداع إلى المرأة الوحيدة التي أحبها، لأنها الآن في عصمة شقيقه...

ولكن لعله وهو على فراش الموت في مغتربه البعيد كان يذكر تلك الليلة التي فجعه والده فيها بحبه وقلبه...

ولعله مات وهو يقول في سره: يا أبتي الحبيب...لقد قتلتني...أبي الحبيب: لماذا؟

وسوم: العدد 627