امتحان

تفحص البيانات متوترا متوجسا . توقف عند الاسم الثلاثي " الجمهورية العربية المتحدة " ، فخالجه الرضا والاطمئنان . وزاد رضاه واطمئنانه بتوثقه من نوعية خط الامتحان . نفس الخط الذي رآه مرة في أوراق امتحان الثانوية العامة . واضح أن هذا الامتحان من القاهرة تنفيذا لقرار جمال عبد الناصر باستئناف إشراف وزارة التعليم في القاهرة على امتحان الثانوية العامة في غزة بعد توقف دام عامين إثر احتلال إسرائيل لغزة في 5 يونيو 1967 . قُدم امتحانان خارج ذلك الإشراف ، وسمى الناس شهادتهما  "الإسرائيلية " حطا لقيمتها وريبة في قبول الجامعات العربية لحملتها .وتفاجأوا حين قبلتها الجامعات السورية وبعض جامعات العالم . وهي على كل حال لم تكن موسومة بأي سمة لإسرائيل ، وواقعيا لا علاقة لإسرائيل بها سوى أن امتحانها جرى في ظل احتلالها الأسود الكريه . قاعة الاختبار من طلبة نظام المنازل . أشخاص من أعمار متفاوتة قد تصل  في تفاوتها إلى ست سنوات وربما أزيد . كلهم تحمسوا للامتحان لعودة إشراف القاهرة عليه . عودة لما كان ، وبُتِر في ضربة صاعقة بالهزيمة المفاجئة المخيفة . في القاعة مراقب أجنبي واحد ؛ فالأمم المتحدة كلفت بتعيين مراقبي الامتحان . وقف في صدر القاعة ، غرفة صف ، طويلا نحيلا ، صامتا ، دون مساعد فلسطيني . بدأ موسى الإجابة تتناهبه مشاعر مختلطة من الفرحة والقلق والخوف من مجهول مفاجىء الانبثاق . وفي صعود سريع ، أزاح القلق والخوف كثيرا من الفرحة . بعض الطلاب بدؤوا يحاولون الغش من غيرهم  دون استجابة لمحاولاتهم . هوت على قلبه من طالب على يساره حارقة مفزعة : نقلني !

رماه بالتفاته خاطفة صادة . استهول ما في وجهه من أوسام الغباوة . لم يرَ في حياته غباوة على هذه الصراحة والانكشاف . عادت "نقلني " ترجه ثانية . أقام سبابة يمناه على فمه : اخرس !

الهماهم تتعالى قوة . رجاءات ، دعوات بالنجاح . والأجنبي ماثلٌ تمثالا جامدا لا يفعل شيئا . وانفجرت صيحة : نقلوني ! أريد أن أنجح . هذا رابع امتحان أقدمه .

كان الصائح  في آخر القاعة . ترتجف يد موسى . المجهول السيء يقترب مدمدما . لا ريب في أن أيدي كثيرة ترتجف . الأيدي  ترتجف في الامتحان في الجو الهادىء العادي . ما حالها إذا كانت في جو متوتر منذر بالشر والسوء ؟ يتخوف موسى ، ولابد أن طلابا كثيرين مثله يتخوفون ، من اضطراب وفوضى  قد يدفعان القوة الإسرائيلية المتمركزة شرقي المدرسة التي يجري فيها الامتحان؛ للتدخل ، وينتهي كل شيء بالخراب والخسار ، بإلغاء الامتحان في  أول يوم ، وكان للغة العربية. تمركزت القوة الإسرائيلية منذ الصباح شرقي المدرسة احتياطا لأي اضطرابات قد يقوم بها بعض الطلاب  خاصة الذين يسوؤهم الامتحان . دوت الصيحة ثانية : نقلوني يا أولاد ال ... أغلط عليكم ؟

وترك الصائح مقعده ، ووقف في منتصف القاعة ومزق ما في يده من أوراق ، ومرق من نافذة الغرفة غير المقضبة مسرعا ، وجرى ينقب ،لابد عن حجارة ، وانحنى ، وانتصب سريعا ، وقذف القاعة بحجر مر من فوق رؤوس بعض الطلاب وضرب الحائط المواجه له من الغرفة ، وجرى مبتعدا ، وانتظر الطلاب أن يأتي أحد لصد أي تدهور محتمل ، ولم يأت أحد ، ولبث الأجنبي المسكين في وحدته وصمته ، والطلاب في فزعهم وقلقهم على مآل امتحانهم . كان امتحانا عذابا وحرقا للروح والأعصاب ، وخوفا من هلاك فرصة لا يعرف الطلاب الجادون كيف يستعيدونها إن هلكت . الأسئلة تضطرب في حركة سرابية تحت عيني موسى . قدرته على التركيز تتشتت . يحاول الانفلات العصبي والذهني من الجو المشحون توترا وتخوفا . يوفق قليلا ويخفق كثيرا . بصعوبة مجهدة نفسيا وعصبيا يصر على جودة خطه ، بل على استقامته دقيقا على السطور . متى يبلغ السؤال الأخير ؟! متى يسلم ورقة الإجابة ؟! يحس أنه في عالم غير واقعي . عالم صنع فجأة بمواصفات جديدة غريبة . بدأ بعض الطلاب يسلمون أوراق إجابتهم . لم يأت بساعته حتى لا يشغل نفسه بمراقبة نفاد الوقت . هاهو يضع الكلمة الأخيرة في الجواب الأخير . راجع الإجابة مضطربا متوترا . أحس قدرا مناسبا من الرضا أعاد له بعض الهدوء المتوجس . لمح رغبة خفية في نفسه لتقدير درجاته . زجرها سريعا . لا وقت ولا قلب للتقدير المعتاد بعد  إجابة كل مادة . ما كتب كتب والأمل في لطف الله . على كل حال يحس بأن إجابته جيدة ، ليست بالمواصفات المعهودة عنه ، لكنها جيدة بمعيار الجو الجهنمي الذي امتحن فيه . سلم إجابته ، واعتذر للأجنبي بالإنجليزية ، فهز رأسه باسما كأن شيئا غير مألوف لم يحدث . وهم بأن يفكر في الامتحان  التالي بعد يومين وإن كان سيتم في نفس الحال الجهنمية المهددة ، فأشاح بباله عنه . كفى ما قاسوه في امتحان ، محنة اليوم . مر مع صديقه عبد الحميد بالقوة الإسرائيلية الصغيرة ، نصف مجنزرة وناقلة جند صغيرة وجيب ، لاحظ مع صديقه أنها تتهيأ لمبارحة المكان . سرح بفكره . منذ عامين ، في مارس 1967 ، في المكان الذي تمركزت فيه القوة  ، تدرب مع طلاب الصف الثاني على إطلاق النار من البندقية ضمن حصة الفتوة التي كان لها زيها الخاص في الثانوية الذي قصد منه غرس الروح العسكرية في نفوس الطلاب . انبطحوا واحدا بعد الآخر على الأرض ، وأطلق كل طالب رصاصة دون تهديف على شيء محدد  تحت إشراف شاويش مصري اسمه عبد العال . كانت الأرض خالية وسيعة نسبيا ، تركت دون زراعة ، فكثر فيها النبت والعشب وغدت مرتبعا غنيا مغريا للماشية من نعاج وماعز . والأرض الآن ، في أغسطس 1969، خالية فيها بقايا من قش القمح المحصود . أي هزل عابث جعل القوة الإسرائيلية تتمركز في المكان الذي تدرب فيه موسى وزملاؤه لمحاربتها وانتزاع الأرض من مخالبها ؟!

وسوم: العدد 630