أحلام جريحة لمغترب سوري

أبو الشمقمق

في مطار دمشق ، صعد الشاب مع زوجته الأجنبية إلى الطائرة عائداً من حيث أتى . اتخذت مكانها جانب النافذة . وضعت طفلتها بينها وبين زوجها . لم يستطع الشاب السيطرة على مشاعره . وضع راحتيه على وجهه ؛  فيما أخذت دمعتان تنحدران من عينيه .

نظرت إليه زوجته برفق . دست يدها بين يديه وهي تفهم ما يعنيه وما يعانيه . 

كانت دموعه اعـتذاراً صريحاً ، لما سببه لها من الأذى دون قصد ؛ حينما أحضرها إلى وطنه ؛ مدفوعاً بالحنين إليه .

ناولته محرمة ورقية فمسح جفنيه . الطفلة الصغيرة تحدق بوالدها دون أن تعي ما يحدث .

بعد إقلاع الطائرة ، راح الشاب يستعرض ما مر به . إنه يغادر الأرض التي أحب بنفس تقطر بالمرارة وقلب ينضح بالأسى .

لقد دفن أحلامه في التراب ؛ ونثر أمانيه في الهواء .

تذكر منذ سنة عندما قدم من الخارج بعد إنهاء تحصيله العلمي حائزاً على مؤهل ٍعال يضعه في مركز مرموق . كما عادت معه زوجته الجميلة ذات اللون الناصع والطول الفارع والعينين الزرقاوين والشعر الأشقر، وهي تحمل نفس الاختصاص  كان قد تعرف عليها في الجامعة إبان سني دراسته .

لما كانت الفتاة تتصف بما يحوز على رضا مجتمعه ؛ إضافة إلى مزايا مجتمعها  فقد بنى عليها وأنجب تلك الطفلة الفاتنة .

بعد تخرجهما من الجامعة ؛ عملا مـعاً في مكان واحد فترة قصيرة ونعما بحياة رغيدة . بدأ حنينه يزداد يوماً بعد يوم إلى أهله ووطنه . تحول الحنين إلى نجوى  ثم إلى مكابدة جعلت زوجته ؛ تقترح عليه ؛ أن يذهب وحده في البداية وقبل أن يجازف باصطحابها معه . رفض الذهاب دونها ؛ مما اضطرها إلى الانصياع لرغبته ؛ حـباً له ورفقاً به واستجابة لأحلامه .

بدأت متاعبه منذ اللحظة التي وضع فيها قدمه على ارض المطار .

لم يفاجأ بما كان يتوقعه ، لأنه كان يتبادل المعلومات مع أقرانه في بلاد الغربة وبتسقط الأخبار من القادمين من الوطن الذين استطاعوا الخروج منه وكأنهم خارجون من مصيدة ، ومع أهله خلال تبادل البريد الذي يتمكنون عبره من تسريب بعض المعاناة ، لم يفاجأ بل فوجئ بحجم التغيير الذي طرأ على مجتمعه. اجتاز في المطار ثلاثة حواجز قبل الخروج منه . تعرضت زوجته إلى عدة إساءات لا مسوغ لها . هل هذه سورية التي يعرفها ..؟   

 راودها رجال الأمن عن نفسها عندما طلبوا استجوابها على انفراد دون وجه حق ثم غازلها رجال الشرطة مراراً وهم يتفاخرون ؛ ظناً منهم ؛ أن كل أجنبية غانية يسهل الوصول إليها مجرد أن تبتسم لهم .

أما رجال الجمارك ؛ فقد عبثوا بمتاعها بحثاً عن الممنوعات ؛ فنثروه على أرض المطار وهم يقلبون ملابسها الشخصية ويتفحصونها بدقة بالغة ، وقد ألهبت فيهم الخيال ؛  وأثارت مكامن أشجانهم .

لم تتذمر الزوجة المتحضرة العاقلة حرصاً على شعور زوجها ؛ حين كان يرى ما يحدث دون أن يستطيع الاعتراض ولو بكلمة ؛ قائلة له إن هذا يحدث في كل بلاد العالم ! ياللهول ! هل هذه سورية التي عرفها ..؟

لم يعهد في الناس مثل هذا التمزق . حاول جاهداً أن يبين لها ؛ أن ما صادفته لا يعبر عن حقيقة مجتمعه ، وهو يعلم أنه لا يحدث في كل بلاد العالم ! فأقرته على رأيه وطيبت خاطره .

استقبلته أسرته في المطار عند قدومه . عانق الأب ابنه  وحيا زوجته وضم إليه حفيدته . الأم عانقت الجميع وقادت الطفلة فخورة بها .

شكا الشاب لأبيه مما لاقوه . لم يسع الأب إلا أن هز برأسه . لم يصدم . كان يعلم أن ما ينتظر أدهى وأمر .

فكر الشاب بالقيم التي تركها . لم يفهم ما يحدث أمامه  . لقد حافظ على قيمه في غيابه عن أرضه وفقدها حين عاد إليه !

لم يكد ينفض عنه وعثاء السفر حمى نهض بهمة عالية . ليجد مكاناً لائقاً يقف فيه  ، ما كان يتصور أن الطوفان أقوى من الخشبة التي يتمسك بها . أخذ يطرق أبواب الوزارات ويتردد على أعتاب المؤسسات ؛ يتصل بالشركات ويتسكع في الجامعات  ظاناً أنه يقدم ما سوف يحوز على إعجابهم . لم يجد من كل ما رآه و لا من قابله ترحيباً ، بل ارتياباً. كانوا ينظرون إليه في خشية وترقب وعدائية وكأنه جاسوس قد كشف أمره !

كان يشرح لهم ما يحمله من المؤهلات ؛ ويريهم الوثائق التي تدعم كلامه يعرض شهادات الخبرة التي حصل عليها ويسمي الجهات الأجنبية التي كان يعمل لديها ، فيأتيه جواب واحد وكأنهم على اتفاق فيما بينهم :

- إذن , اذهب إليهم ! ما الذي جاء بك إلينا ؟

في الوزارات يجيبونه دون أن ينظروا إليه :

- لا توجد وظائف . القوانين تمنع التوظيف ؛ وهي معلقة على اللوحة في الخارج لأن لدينا ثلاثة ملايين موظف لا عمل لهم ! إلا إذا ....

- إلا إذا ..ماذا ؟

وينتحي به أحد الناصحين جانباً . أشفق عليه فراح يتطلع يميناً ويساراً  ثم يشرح له معنى : إلا إذا ...!!

تتلخص إلا إذا ، في أمرين الأول ؛ إما أن يعثر على واسطة من العيار الثقيل وإما...

- من العيار الثقيل ؛ فهمت . ما هو العيار الخفيف ؟

 - العيار الخفيف ؛ أن تدفع قرشاً !

- أدفع قرشاً !؟

- لمن سيمنحك القرشين !

- أهو بنك؟

- يمكنك أن تقول هذا . إذا أردت أن تأكل العشرة يجب أن تطعم التسعة !

- كله عندهم أكل بأكل ! هل نحن نعيش في مطعم ؟ ألا يوجد عمل وعلم ؟

حلم وأمل ؟ ألا يوجد عقيدة وإيمان ؟ ألا يوجد أرض ووطن ...

- كله موجود .

- أين هو ؛ لماذا لا أراه ؟

- موجود في الأناشيد والأغاني والكتب ، والاجتماعات والمؤتمرات والإذاعات ... وأنصحك نصيحة لوجه الله .

-  أكون لك من الشاكرين .

ـ-  لا ترفع صوتك لئلا يسمعنا أحد ؛ فتكون فيها نهايتنا . لكن قل لي ؛ هل قصدت شركات القطاع المشترك ؟

- قصدتهم فقالوا ؛ لا يوجد لدينا شواغر؛ إذا توفرت سنتصل بك .

 هل جربت المؤسسات الخاصة ؟ إنهم بالتأكيد يحتاجون إلى مثل اختصاصك .

- جربت .

- ماذا كان جوابهم ؟

 - نعم . نحتاج إلى اختصاصك ؛ لكن بعد خمسين عاماً !

- الجامعات . ليس لك إلا الجامعات . على حد علمي لا يتخرج أي مبعوث من قبل الدولة إلى البلاد الشرقية ؛ إلا يعينونه فوراً رئيس قسم . وعلى هذا بالنسبة إلى مؤهلاتك وشهاداتك يجب أن تكون رئيس الجامعة !

- لقد فعلت .

-وماذا قالوا لك ؟

 - أخذوا يشكون لي همهم قبل أن أشكو همي . الملاكات لديهم تفيض عن حاجتها

وما يزيد عن طاقتها ولا يعرفون كيف يتخلصون مما لديهم .

- كانوا يتغدونك قبل أن تتعشاهم !

- لم أفهم .

- والله أرى أن علتك لا علاج لها .

- والحل ؟

 - الحل ؛ أن تسلم أمرك إلى الله وتعود من حيث أتيت .

- نفس النتيجة التي توصلوا إليها !

ضحك الناصح الأمين قائلاً :

- ماذا تتوقع ؟ كلنا نشرب من بئر واحدة .

عاد إلى البيت وهو يحمل هموم الدنيا . كان الجميع يرفضونه . المجتمع يرفضه وطنه يرفضه . تسرب الإيمان من قلبه . تلوث النقاء في صدره . انغمست روحه في القنوط . فزع إلى أبيه طالباً النصح والمشورة ؛ فقال له الأب بصراحة :

- أي بنيّ. لقد رأيت بعينيك وسمعت بإذنيك ولمست بيديك ما نحن فيه. لا آمرك ولا أنهاك . إن أقمت فأهلاً بك ؛ لكنك تخسر زوجتك وابنتك وهما بحاجة إليك ؛

وإن رحلت ؛ فسوف تحل الخسارة بنا لفقدانكم . أما الوطن فقد خسرناه جميعاً !

- هذا يعني أن أترككم إلى الأبد .

- لا تفزع ! سوف نلتقي بين الحين والآخر في بلاد مجاورة ؛ إن سمحوا لنا بالخروج وإن لم يسمحوا فحسبنا الله ونعم الوكيل .

- لكن ...

ـ لكن هذه المرة قد سلمت من المساءلة والمطاولة والمضايقة والملاحقة . إذا حصل في المرة القادمة لا سمح الله ؛ لا نستطيع أن نفعل لك شيئاً .

 - مساءلة وملاحقة ؟ لم أفعل شيئاً !

- ومن قال لك أن تفعل شيئاً حتى تلاحق . آلاف الموجودين داخل الخيمة لم يفعلوا شيئاُ أو يرتكبوا ذنباً . والمشكلة ليست هنا ...

- هل هناك أكثر من ذلك ؟

- نعم. حين يمس الأمر زوجتك وحتى ابنتك . ما ذنب هذه الغريبة ؟ بل ما ذنب هذه الطفلة ؟ اذهب إلى حيث كرامتك .  كرامة الإنسان وطنه .

وتذرف الأم دموعها. انتظرتْ طويلاً . عانت الكثير ليعود ابنها إلى حضنها . وحين عاد ؛ لم يجد له مكاناً ! كان الجميع في حضن الشيطان .

يتوقع الشاب من زوجته بعض العتاب عندما أخبرها بما سمعه من أبيه . كانت أكثر حكمة منه . وستكون كذلك حين لا تقحم رغبتها بقراره :

- افعل ما يحلو لك يا بني ! فإذا توصلت إلى قرار فأنت تعرف الطريق ؛ وسأكون  دوماً إلى جانبك .

ظل متردداً . هل ما تزال في قرارة نفسه كوة ضيقة تطل منها أحلامه على هذا الواقع المفجع ؟ ويبذل المحاولات كرة أخرى فلا يخرج بنتيجة. هل يعقل ألا يرى ضوءاً آخر النفق ؟

يظن خطأً أن الحظ يبتسم له أخيراً. ويحدث ما يسد الكوة تماماً بالقطران الأسود .

توافق إحدى الجهات على طلبه !

يخضع لمقابلة شكلية أمام لجنة خاصة تعقد لهذا الغرض . لقد خطرت بباله كل الاحتمالات؛ لكن لم يخطر بباله أن موافقتهم جاءت بعد أن شاهده المسؤول برفقة زوجته الجميلة !

يتأبط الشاب أوراقه ويسرع إلى المقابلة . يصل في الوقت المـحدد إلى المكان المحدد . تطلب منه السكرتيرة الانتظار في الصالة المجاورة حتى تنتهي اللجنة من عملها . حين يسمع اسمه يكون قد جاء دوره .

ويحدث أمام عينيه ما لم يكن يتصوره عقل .

تخرج امرأة شابة من اجتماع اللجنة وقد جاءت على ما يبدو لنفس الغرض الذي جاء من أجله. كانت مقطبة الجبين ؛ خائبة الرجاء . تبادلت مع السكرتيرة حواراً مرعباً يصغي إليه . كان يصل إلى مسامعه بوضوح .

تبادرها السكرتيرة بالقول :

- ما تزال اللجنة ترفض طلبك ، أليس كذلك ؟

- نعم . هذه المرة الثالثة التي أتقدم بها وأقابل بالرفض .

- ولا تعرفين حتى الآن ؛ ماذا يريدون منك ؟

- لا . لا أعرف . لم يخبرني أحد .

- لا تتعبي نفسك ! أنا سأخبرك .

- أرجوك أن تفعلي !

 - لن يقبلوك إلا في حالتين . اصغي جيداً لما سأقوله و لا تنفعلي !

- على أن يكون كلامك واضحاً .

- لن تسمعي في حياتك كلها كلاماً أوضح من هذا . 
 - أرجوك ِ!

- إما أن تدفعي و إما أن ترفعي !!

لم تفهم المرأة لأول وهلة ؛ كما لم يفهم بدوره . وحين فهمتْ صرختْ بقوة :

- ماذا ؟

وتضحك السكرتيرة ضحكة مميزة وهي تمضغ لباناً وتصدر عنه فرقعة بين الفينة والفينة دون أن يمنعها من متابعة الكلام :

- كما سمعتِ وفهمت ِ بلا زيادة ولا نقصان .

- أليس من المخجل أن تتفوه مثلك بهذه الألفاظ ؟

وتضحك السكرتيرة مرة أخرى وهي تباعد بين قدميها :

- ليس هناك ما يخجل . إنما المخجل ألا تعرفي في أيّ بلد تعيشين !

- صحيح من استحوا ماتوا .

- نعم . ماتوا من الجوع ....!!

 - لا أحد يموت من الجوع . والحرة تجوع ولا تأكل بثدييها .

- لا تأكل بثدييها نعم ؛ لكن بشيء آخر !

 ترفع المرأة وقد بلغ بها الغضب مبلغ الانفجار حقيبة يدها وتهوي بها على رأس السكرتيرة . تحاول هذه الأخيرة تجنب الضربة فلا تفلح . لم تسبب لها الضربة أذى ؛ لكنها أفسدت تسريحة شعرها فحسب .

يخرج أعضاء اللجنة الموقرة على الصراخ الذي يحمل من الكلمات البذيئة ما يندى له الجبين لمعرفة الخبر. يعمدون إلى تهدئة السكرتيرة الغاضبة المهدورة الكرامة . يسأل أحدهم :

- ماذا هناك ؟ لم هذا الصراخ ؟

تجيب وقد تناثر شعرها على كتفيها :

- هذه العاهرة تريد أن تبيعني شرفاً .

يتجه رجل اللجنة إلى المرأة فيقول لها مشيراً إلى الباب :

- لم نضربك على يدك كي تأتي إلينا . هذه دائرة محترمة . لا نريد إحداث شوشرة . اذهبي وإلا أريناك ما لا يسرك !

- دائرة محترمة ؟ سأشكوكم إلى الشرطة .

- بلطي البحر أنت والشرطة !

خرجت المرأة كي تبلط البحر ؛ لكنها لم تعثر على بلاطة واحدة . 

لم يترك المشهد المثير له فرصة ليفكر ، بل نهض حاملاً أوراقه دون أن ينظر وراءه وهرب ؛ قبل أن تعقصه أفعى أو ينهشه ذئب أو يعضه كلب .

لا مقام له في هذه الديار .