الأنسة يارا

د. محمد أبو زيد الفقي

ذات مساء جميل حضرت للتهنئة في أحد الأفراح ولا أفعل ذلك كثيرا ، لضيق الوقت  وكثرة ما أقوم به من أعمال ، ولكني حضرت لأن العروس كانت طالبة عندي في معهد من معاهد الدعاة ، وهذه المعاهد تقبل حتى سن الخمسين أو يزيد.

كانت سيدة يكسوها الوقار ، والحشمة ، والأدب الجم ، شديدة الحرص علي التعليم والبحث ، ولما كلَّمت زوجها عني حضر إلي المعهد ، وجلس معي ، ووجدت أنه لا يختلف عنها أدبا ووقاراً ، وظلت هذه الأسرة تشكل في ذهني نموذجاً جيداً لما يجب أن تكون عليه الأسر المسلمة في كل مكان ، ومن هنا كان سبب حضوري  لهذا الحفل معقولا ، السبب الثاني اعتقادي الجازم بأنه لن تكون هناك مخالفة في أفراح هؤلاء الكرام  الطيبين.

تم الحفل في إحدى قاعات الأفراح بالمدينة التي يعيشون فيها ، وكان المدعوون يدخلون جماعات ، وفرادى ، وبعد قليل من بداية الحفل حضرت امرأتان ، إحداهما ترتدي الثياب الإسلامي المحتشم ، وهي في الخمسينيات من عمرها ، والأخرى تلبس الملابس القصيرة ، التي لا توصف بأنها ملابس إلا من باب المجاملة ، أما باقي المظهر فالفتاة تشبه الأجانب ، ولا يمكن لأحد أن يتصور أنها مصرية ،هكذا كان ظني بها لأول وهلة  ، ولكن عندما رأيت كثرة تحركها ، بين المدعوين  ومصافحة كل من تعرفه ، وتقبيل كل النساء ، وكثرة من الرجال والشباب ، استنتجت أنها مصرية ، و أنها ربما كانت قريبة لأصحاب الفرح ، أو للعروس ، ولم يمر وقت طويل حتى فوجئت بها أمامي ، هي والسيدة التي دخلت معها ، تصحبهما صاحبة الفرح تلميذتي في معهد الدعوة.

قدمتهما لي مشيرة إلي السيدة الكبيرة بأنها أختها ، وأن الفتاة ابنتها ، أي بنت أختها  ، ثم أردفت قائلة : يا مولانا أختي وابنتها في حاجة إلي مساعدتك ، والحمد لله أنك حضرت الليلة ، و أرجو منك ابتغاء وجه الله أن تساعدهما ، وسوف أُعد لكم غرفة بعيدة عن صخب  الحفل ، حتى تسمع منهما ، لأنها مشكلة كبيرة لم نجد لها حلا منذ سنوات !!

ذهبنا إلي غرفة بعيدة عن صخب الحفل وجلسنا.

قالت الأم: تزوجت من رجل محترم، وميسور الحال، لكنه لا يهتم كثيراً بالالتزام

في تربية أولاده، ورزقني الله منه بولدين، سافرا إلي أمريكا بعد التعليم

وعاشا حياتهما كما يعيشها الأمريكان تزوجا وطلقا، وتزوجا وهكذا.

قلت: أعرف ظروف المجتمع الأمريكي، ولكن هناك ملايين الأسر المسلمة،

والمسيحية ، واليهودية  تعيش مستقرة إلي النهاية.

قالت : المهم ابنتي هذه رغم جمالها ، ومظهرها ، إلا أنها لم توفق حتى في خطبة

ناجحة إلي الآن ، وقطار الزمن يمضي ، وفرصتها في الإنجاب تقل ، وبدأت    

تمرض وذهبنا إلي الأطباء النفسيين ، بدون فائدة ، وذهبنا إلي بعض الذين

يعالجون بالقرآن ، بدون فائدة ، بل ذهبنا إلي السحرة ، والمشعوذين ،

وبعضهم  كان سيعتدي عليها لولا  ستر الله تعالى .

قلت : يا أختي أنتم أسرة رغم ما يبدو عليها من ثراء وسعادة ظاهرة ، إلا أنها

أسرة تعيسة جدا.

قالت : لماذا ؟

قلت : لأنكم ببساطة أخرجتم الله من معادلة حياتكم .

قالت :  نحن نؤمن بالله وأنا وزوجي نصلي ، ونصوم ، ونحج ، ونزكي ، ونتصدق    

كثيراً.

قلت: الإسلام منهج حياة كامل، ولكي تكوني مسلمة حقيقية، لا بد أن تستشعري

وجود الله وجوداً حياً، ومباشراً، في كل حركة من حركات الحياة، أما

العبادات فبرغم أهميتها ، ووجوبها فإن الإنسان لم يخلق من أجلها فقط ، بل

خُلق ليكون خليفة لله تعالي في الأرض، ولابد أن يتخلق الخليفة بأخلاق من

استخلفه، أي لابد أن نكون عبادا ربانيين، نخاف الله ونحبه، ونستشعر

وجوده في أنفسنا ، وخارج أنفسنا ، أي في أعمالنا ،  ولعل السبب الأقوى لضياع الأمة في هذا الزمان ، هو عدم فقه عبادة الله عند الكثرة من الناس فأخرجوه من معادلة حياتهم الخاصة، ولا زلت أتذكر ما فعله رجل عربي حين

كنا في الحرم، وبجوارنا امرأة تصلي  فما روعنا إلا يد الرجل التي امتدت إلي جسد المرأة تتحرش  بها وكان سعيداً جداً بما فعل ، ولقد سبقتنا أمم كثيرة، فعلت مثلما نفعل الآن، تصوروا أن مكان الله تعالي في المعابد فقط  ، ووجوده في العبادات فقط ، أما السلوك الدنيوي في الحياة ، فالله بعيد عن هذا تعالى الله عما يقولون.

قالت : كلامك على العين والرأس لكن كيف تُحلُّ مشاكل ابنتي ؟

قلت:   دعيني أسألها أولا، وهنا توجهت للفتاة بسؤالي المباشر:

ـ هل تشعرين يا بنيتي بالسعادة وماذا ينقصك ؟

قالت : أنا أقلد المجتمع الذي أعيش فيه ، و أقلد الفنانين في ملابسهم لأني

أشعر  أنني أجمل من أي فنانة أراها في السينما والتلفاز ، وكنت أتصور

أن هذا سيكون طريقا للزواج والاستقرار، والإنجاب، لأن أمل حياتي

أن يكون لي ابن أو ابنة.

قلت : ماذا تريدين من الزوج والأولاد ؟

قالت : السعادة.

قلت : ومن الذي يمنح السعادة ؟

قالت : الله سبحانه وتعالى .

قلت : وكيف يمنحك السعادة وأنت تعصينه في ملابسك وتصرفاتك المخالفة لقد

رأيتك تسلِّمين علي الرجال وتقبِّلين بعضهم، وكنت في غاية الكرم مع من  

يلامسك .  أنت بصراحة مجموعة معاصي متنقلة، وربمان كان الشيطان سعيداً بك وحفيا.

قالت : إن كثيراً من الفتيات يلبسون مثلي ، ويفعلون  ما أفعل ، ويعيشون في غاية

السعادة.

قلت : هؤلاء سقطوا من عين الحق سبحانه وتعالى ، فهو يستدرجهم من حيث

لا يعلمون ، أما أنت فربما عندك بقية من خير لا أعلمه  ، و أنت تستطيعين

النجاة إذا أردت يا [ يارا]  يا ابنتي .

قالت : وماذا أفعل ؟

قلت :  لقد جربتي كل شيء من متاع الدنيا الزائل فلماذا لا تجربي الطاعة

أنت مثلا تلبسين ملابس ضيقة  وقصيرة ، لماذا  لا تجربين لبس الملابس

المحتشمة ، مثل العباءة والحجاب ، واعتبري هذا من ( الموضة )  وجربيه ، 

ولماذا لا تصلي جميع الفروض ، كي تنتصر روحك علي جسدك ، وتفتحين

باباً للتصالح مع الله .

قالت : وتضمن لي الشفاء  والزواج والسعادة ؟

قلت : أضمن لأن الله تعالي : [ لا يضيع أجر من أحسن عملاً ] ، ولكن لي شرط

واحد : أن يكون عزمك علي الطاعة  إلي النهاية ، وليس لتحقيق أهداف

مرحلية .

قالت : أفعل .......

وبعد ثلاثة أعوام هاتفني زوج يارا من جمهورية استونيا

{ من جمهوريات بحر البطليق في الشمال } ، لم أعرفه أول الأمر ، ولكنه عرَّفني

بنفسه : أنا زوج يارا عبد اللطيف من مدينة ( كذا ) في مصر ، تزوجتها  ورزقنا الله بطفل جميل ، أصرت أن تسميه محمدا .

فأخذت منه الهاتف مرحبة بي سائلة عن صحتي فحمدت الله وسألتها عن حياتها ؟

قالت : لقد نفذت ما قلت لي بالحرف ، شفاني الله ورزقني بزوج متدين ، ومحترم ،

ولك عندي بشرى ، لقد استطعت بسلوكي الطيب أن أُدخل أكثر من عشرة

من أهل هذه البلدة في الإسلام ، وسوف استمر لعلي أعوض ما مضى من

حياتي .

قلت : استمري يا ابنتي ، فالحياة تمر بسرعة ، وليس لنا منها إلا ما قدمناه من 

فعل الخير ، وكلميني كلما كان لديك جديداً ، فأنت نموذج لمن يستمع القول   

فيتبع أحسنه .

وانتهت المكالمة وعلى الفور تذكرت قول الشاعر أحمد بدوي :

* أنا آويت لكل مأوى في الحياة        فما وجدت اعزَّ من مأواك 

* وبحثت عن سر السعادة جاهلا        فوجدت هذا السر في تقواك

* فليرضى عني الناس أو فليسخطوا       أنا لم أعد أسعي لغير رضاك

وسوم: العدد 654