لا أبحث عن ملجأ أيتها الروح

بل كل ما أعلمه عن جزئيات الحياة !

حياةُ نفس لازالت روحها تتجوّل ، وتنتعش بتغلغلها الدائب في خلايا الجسد الذي

تقطن فيه ، رغم كل أكوام الهمّ والقلق ، التي تُكللُ النفس وتحيط بها من كل جانب ،

من جرّاءالبحث والتفكيربكيفبة الحصول على أي نوع من أنواع الغذاء .

قالت لي : لايمكن لي أن أكون غريبة في جسدك ، وأنت قد أصبحت غريبا في حارتك

ومدينتك ! تعال لنكوّن وطناً صغيراً ، لايراه أحد غيرنا نحن الإثنان ، نهرب به من

الدمار والحصار ، أنت تبعث فيّ غذاء الذاكرة ، وأنا أرتضي لك الكفاف والعناد !

سألتها : والروح بيننا ؟

أجابت واثقة : اتركها في تبخترها غير عابئة بما يجري خارجنا ! .

وعللتُها بالبحث عن رغيف خبز ، أو ما يقاربه في الشّبه !! رغم يقينها الذي ترسخ في

تاريخ بنائها، أنني أحاول الإلتفاف على ماتعاهدنا عليه ، وغَضَّت الطرف لمّا فشلتُ

بالحصول عليه ، واختفى ذلك الرغيف .

 ظهر بعده شيء ينتمي إلى جنسه ، اعتراه حب الظهورلفترة ، ثم مالبث أن أخذ يتبع

 سبيل سابقيه ، يختفي أيام ويظهر ليوم ، ولابأس به حين يبعث فليلاً من الإطمئنان ،

ويقوّض الخوف المتزايد من تشديد الحصار .

تبقى تلك الروح تتبختر في كينونتها ، غير عابئة بالكيف الذي يأتيها لتستمرّ في

غرورها .

...................................

أحس باستنفارنفسي لمّا تبدأ بمناكفتي وهي مضطربة ، قبل أن تكتحل عيني ، برؤية

جنس ،يتبع إلى فصيلة ( الحُزَم الخضراء) أياً كان اسم عائلتها ،فالحصار أصدر

(فرمانه) بالإستغناء عن التسميات ، والإكتفاء بالتوصيف بشكل الشيء ووجوده ، أو

لربما هو النسيان القسري ، لكل الأسماء التي لم تعد تراها عيوني الذابلة ، ومع ذلك

 فقد غدت هي الأخرى ( الشتلات الخضراء)، من النوادر بعد عدة استعراضات

وجودية غذائية بدائلية ، بعدما حثّت وشجعت وظيفة غدد اللعاب ، على العودة إلى

وظيفتها التاريخية ، ويأتي دوري لأناكف نفسي التواقة لأي غذاء ،عندما  أذكرها

 بمثال حكمة( القوة والضعف) ، يوم كانت تضرب لنا أيام مقاعد الدرس ، وتقدم

بزينتها الحماسية المذهبة المزركشة ، فلا أرى القوة هنا إلاّ بتفرق أي شيء فرادى ،

والقوة بالسعرالباهض ، ( فالغصن ) أو الفرع الصغيرمن حزمة البقدونس أو نبات

(السلق ) أو( الرجلة )،يتجاوز سعره ثمن خمسة أرغفة من الخبز الأبيض

 المنقرض !!.

...........................

أخاف أن يسمعني أحدهم وهو يمرّ من جانبي ، ويقول لي أن هذا التشبيه فيه إجحاف

وغلو، بالرغم من أني أسير لوحدي ولا أرفع صوتي ،ولا أكلّم إلاّ نفسي التي ترافقني

كشخص صديق أوجدته عنوة ، اكتسب القوة بتحمل مناكفتي القاسية له ، مثلما اكتسبت

أي نفس أخرى في هذا المكان ذات التحمل ، فوجود هذه النفس الآن في أضعف حلقة

من الحياة الإجبارية ، وفيها ما يدلّ على إكسيربقائها في أدنى قيمتها ، ألا وهو( الغصن

 الأخضر)  الذي يعود بمردوده عندما يؤكل (بشهية مصيرية ) ، بنصف كيلو من اللحم

القائم ، إذا ما تناوله حيوان معد للغذاءالآدمي ،في مدة أقصاها اسبوعاً واحداً ، بينما هو

الآن ،(غصن من البقدونس أو السلق)إن وجد في هذا ( السوق المقفرّ )،قد تحوّلت

وظيفته في عملية الغذاء البيولوجية ، إلى الغذاء الآدمي الرئيس مباشرة، ومن دون

 واسطته الدورية الطبيعية ، ومع ذلك لايستطيع هذا المخلوق البشري ، وفي هذا

الحصارالإجرامي ، من الحصول عليه (إن وجد) ،إلاّ ( بمقايضته) سعرياً ، بخمسة

 أرغفة خبز  (مجهول التركيب والتصنيع) ، أو مايعادل ثمنها من العملة المحلية ،ذات

فئة الأرقام المتقدمة الغابرة ، التي ولّت هي الأخرى ومنذ زمن ، إلى خزائنهاالدافئة

إلى غير رجعة !! .

.............................

لا أدري ما الذي يفيدني أيتها النفس كل هذا التأويل !.

ولكن قُرّي واطمئنّي : فلا أجده إلاّ وهويصنع لى حاجزاً وهمياً مؤقتاً، ينتزع مني قليلاً

من القلق والخوف ، عندما أتبع الطرق الملتوية بين أكوام الدمار، ومن تحت أبنية

خاوية منقوبة الجدران ،لتسهيل الوصول إلى أي مكان ، بأقصر الطرق وأسرعها

وآمنها ، لم يلبث هذا القلق أن يعيدني إلى واقع نفسي القابعة في داخلي،عندما أمرّ

 بساتر قماشي متقطع ممزق، يكون جُلَّ مهمته منع الرؤيا من قناص ، رابض في

الطرف الخارجي ، ينتظرفرصة مرورهيكل عظمي مثلي ، يلمح(بناظوره)ما قد غنمته

يداي المرتعشتان ، من غلال (سوق الوادي) المقفرّ الحزين . لاأرغب من ذاك

المتربص الحصول على مبتغاه ، ولكنها أمنية نفسي الأخيرة ، ألاّ تُزهَقَ روحها

بخسارة ما غنمته ، من بضعة أغصان من البقدونس أو السلق ، أو رغيف مشوه كان

قد عزم أمره ، أن يبعث في ّأمل نوم هادىء لليلة ، بلا تضوّر من جوع ، وقلق مرعب

مخيف من غد مجهول .

..............................

وحيث لم يذهب تأثيرماعايشته قبل قليل ،وما ترك على عقد مفاصل أرجلي ،ولكنها

فرحة غريبة ، تزور النفس المنتظرة القلقة للحظة ، عندما رأيت شاباً ناتئ العظام ،قد

أكل الحصار من قوامه ما أكل ، مشرئب العروق ،  امتلكته شجاعة غريبة ، وقد فرش

 على غطاء محرك سيارة شحن محترق ، بضع شتلات من البقدونس والرّجلة .

ولايسأله  أحد من أين أتى بهذه الغنائم الفريدة ، فهو في أوج فرحته بحُلم يعيشه حتماً ،

حتى يبيع غصناً أو اثنين من البقدونس أو الرجلة ، بثمن يعادل السعرالتاريخي لرغيف

 خبز أيام مجده الغابر ، حتى يموّه المشترين ، إن كان المال متوفر لديهم ، أنه غير

جشع ولا محتكر ، ويالسعادة ذلك الشاب وتلك العجوز،  المتكئة بهيكلها العظمي

المنحني ،على ماسورة مياه قد أتى الصدأ عليها .تريد غلبته بمديد عمرها ، وتنال منه

سدّ  رمقها  .

وجهان متماثلان في ملامح محنة الحصار، تفرق بينهما سنين عمرمتلوّنةكئيبة ، تحمل

 على قدر كل منهما تجاعيد بآثار شتّى ، تَجمّدَت على وجه كل منهما ابتسامة

مغدورة:هي قد حصلت على ما يبقي روحها تتراقص ، على ثنايا سنينها المتبقية

،والشاب مازال يعوم في حلمه ، وقد حصل على مال قليل ربما ليطعم به أم أوصغار،

قد فلتوا من شبح الموت الهائم حول ماتبقى من ركام بيوت مشققة الجدران آيلة

للسقوط  .

كانت يد ذلك المتربص الآثم ،تحمل قذيفة المورتر ، وقد ضبط احداثيات

 الفجيعة المجرمة !.

 ها قد تلاقت الأيدي الثلاث بذات اللحظة ، التي هللت زغاريد الأرواح

المتصاعدة المتلألئة إلى بارئها :

يد الغدر حين ألقت بالقذيفة في اسطوانة مدفعها ، ويد الشاب الحالم حين تناول

 المال من يد العجوز المرتعشة ، وفيها غصن البقدونس الاكسير..! وأولئك الهائمون

الذين كانوا ينتظرون أمراً ما ، لا ليشتروا ولا ليأكلوا ....!! تفرقت أشلاءهم

....وتجمعت أرواحهم.....!! .

...........................

لا...ورب الأرواح......

لم يكن واحداً من هؤلاء ، ولا أنا ، ولا الذين كانوا يجاورونهم في لحظتها ، ويعايشون

آمالهم بعيونهم الحائرة الغائرة  ،لم يكن أي منهم يبحث عن ملجأ ليهرب من الموت !!

ولكن هي الروح آثرت أن تأوي إلى ملجئها المقدس !!

وأما العيون التي شهدت المجزرة المأثرة ، فقد جحظت لتتسع من ألوان مأساة الحصار

ما شاء مفتعلها ......لتعيش نفسٌ أخرى ، وترى أي الأرواح ، قد أخذت دورها في

مشهد جديد يصنعه شيطان أخرس آخر.........!!

وسوم: العدد 670