ذكريات

ساعات الليل وكلام الليل أصدق حديثاً من النهار .. ففي النهار تتغلب المظاهر والأهواء والأكاذيب على عقلنا وقلبنا فلا نقول صدقاً .. أما حديث الليل ففيه شجون وذكريات وأفراح ذهبت وأحزان حفرت في القلب وما برحته إلا تاركة أثراً دامياً .. هكذا هي الحياة .. تبعد عنا من نحب وتقرب منا من لا يحبنا .. هي دنيا وليست جنة .. هذه المقولة تريحني جداً .. لعل الجنة تكون لنا .. فنجتمع بالأحباب دون أن نخاف موتاً أو سفراً أو تحول زمان أو انقلاب إنسان ..

وبارك الله بوسائل الاتصال الحديثة .. التي جعلت المسافات تقترب وتقترب .. والأحاديث تطول بما تحتويه من ود ومحبة .. اتصلت بصديقة الطفولة القديمة أتجاذب معها أطراف الحديث .. أطمئن عليها وعلى أسرتها .. ومن حديث لحديث .. ومن سيرة لسيرة فتحت سيرة زواجها .. حيث كانت طفلة صغيرة لا تفهم من الدنيا سوى الدمى واللعب مع الصديقات والمدرسة والمقالب المضحكة مع المعلمات .. لم يكن ببال بنت الست عشرة سنة سوى طفولتها وصديقاتها وأخواتها .. قالت لي :

ـ ما شعورك حين اتصلت بك وقلت لك : أنا خطبت .. وأهل خطيبي جاؤوا من مصر ليزوجوني ؟

قلت لها ضاحكة :

ـ أنت تعلمين جيداً كم كانت مفاجأة عظيمة وكم ظننتك كاذبة وأن هذا مقلب من مقالبك التي لا تنتهي .. ولكني إلى الآن لا أستوعب كيف اتصلت بي بعد أسبوعين وقلت أنك تزوجت من دون حفلة ولا فرحة ولا شيء مما تحلم أي بنت به .. بل وأنك ستسافرين إلى باريس ..

قالت بأسى :

ـ آه يا أختي .. من يصدق بنت في زماننا هذا تتزوج بهذه الطريقة !

لا أنسى منظر أختي الكبيرة حين طلبت مني أن آتي إليها بعد المدرسة لأساعدها في أعمال المنزل فهي حديثة الولادة وليس لها في الدنيا بعد الله سواي يساعدها .. أتيت إليها وكلي مرح وسعادة لأني أحب صغارها وأحب أعمال المنزل .. وجدتها مرتبكة وقلقة وعلى وجهها مسحة حزن مخفية .. قلت لها ببراءة :

ـ ما بك يا آلاء ؟ أراك حزينة ؟

قالت :

ـ بصراحة يا حبيبتي والدي يريد أن يزوجك شاباً مهذباً من طلابه .. ما رأيك ؟

صدمتني صدمة كبيرة .. لم أتوقع هذا الأمر أبداً .. خاصة أني مثل الصبيان .. ضحوكة .. كثيرة الحركة .. لعوبة .. لا ألقي بالاً لأي موضوع من مواضيع البنات التي كنت أعتبرها تافهة .. قلت لها :

ـ يا سلام .. سأصبح عروساً .. وأضع المكياج وألبس الكعب العالي .. سأصبح بنتاً ..

وضحكت ضحكات بريئة وسعيدة .. ولكني لا أنسى نظراتها الحزينة قالت :

ـ ستسافرين إلى باريس .. وتعيشين هناك معه ..

قفزت مثل الحمامة فرحاً :

ـ سفر ! طيارة ! يا الله ما أكرمك ..!

قالت والحزن عليها :

ـ لن تعودي إلينا إلا في كل سنة مرة ..

قلت :

ـ عادي .. سأعيش أميرة هناك .. بلد العطور والملابس .. رغم أني لا أفهم شيئاً فيها ولكن ما أحلى أن أصبح بنتاً كصديقاتي ..

حاولت بكل جهدها أن تفهمني ما هو الزواج ؟ وأن الحياة ليست مشاوير ولا عطور ومكياج فقط .. لكن عبث .. عقلي طفولي .. يريد الماديات والمظاهر ولا يفهم ما وراء هذه الماديات من مشاكل ..

وبعد يومين كنت أدرس فإذا بأمي تصرخ :

ـ قومي يا حنان ساعديني .. سيأتي خطيبك وأهله غداً عندنا ليراك العريس وأهله ..

تركت الكتاب جانباً وطرت كالفراشة أنظف وأرتب وأنا سعيدة .. قلت لها :

ـ هل سأترك المدرسة ؟

قالت :

ـ طبعاً ..

وهذه كانت أغلى أمنية فأنا لا أحب الدراسة لكني أحب معلماتي وصديقاتي ..

جاءت أسرة العريس وجاء العريس ، ودخلت أقدم له القهوة ليتم التعارف .. وما إن رأيته حتى طرت فرحاً ؛ طول فارع .. عيون خضراء .. يا سلام .. هو المطلوب .. وأخذتني دوامة الحياة لم أر نفسي إلا في صباح اليوم العاشر من جلوس أهل العريس عندنا بينما كان العريس ينام عند صديقه قمت في الصباح أريد أن أداوم على المدرسة فإذا بوالدتي تقول لي :

ـ لا تذهبي اليوم للمدرسة .. عندنا شغل كثير ..

حاولت معها بكل جهدي أريد أن أداوم من أجل أختي الصغيرة المعلقة بي كأنها ابنتي التي ما إن سمعت بأني لن أذهب للمدرسة حتى بدأت تبكي وتتعلق بي .. قالت لها أمي :

ـ إما أن تذهبي وحدك أو تبقي بلا دراسة .. فأختك لن تذهب للمدرسة بعد اليوم .

بكت الصغيرة ونامت على المقعد وهي تبكي .. حملتها إلى فراشها واحتضنتها وكأنها ابنتي الرضيعة ونمت بجانبها ..

جلسنا على الفطار مع أهل العريس فإذا بأمي تقول لي :

ـ اليوم سنرتب البيت .. اليوم عرسك يا حنان .. بدلة الزفاف من باريس في غرفتي ..

تركت الطعام وركضت نحو الغرفة .. أمسكت البدلة بحب .. احتضنتها .. شعرت أني برنسيسة .. أميرة .. كما في أفلام ديزني ..

عند الغداء .. قالت أمي :

ـ نامي يا بنتي بعد الغداء حتى تتمكني من السهر لأن العريس سيأتي ليلاً ونأخذك لبيته ..

قلت لها :

ـ أريد أن أدعو صديقاتي .. أريدهن أن يرين بدلة زفافي .. أريدهن أن يرقصن لي .. أريد .....

قاطعتني أم العريس وفي عينيها حزن عميق لم أعرف سببه .. هذا الحزن في عيني أختي وأمه لم أفهمه إلا بعد فوات الأوان .. نظرات مضى عليها ثلاثون سنة وما زالت ملتصقة في ذاكرتي ..

أيقظوني الساعة الثامنة بصراخهم وتأنيبهم : عروس وتنام إلى الآن ..!!

أية عروس وأية زفة هذه !!

وخلال ساعة كانت أختي آلاء قد أتمت زينتي المتواضعة من شعر ومكياج ولبس البدلة .. قبلتني بحب .. أما تلك الصغيرة فبكت وبكت وبكت بحرقة .. وذهبت تتوسل إليهم إلى أم العريس وإلى أمي وإلى الجميع :

ـ اتركوا حنان الليلة فقط تنام جنبي .. لم تقولوا لي أن أمس كانت آخر ليلة لي معها .. لم تخبروني أنها ستتركني .. لماذا تأخذونها مني ؟ والله ما زعلتها أنا ..

استيقظ قلبي فجأة .. وفتحت عيوني على الواقع .. بدأت أفهم نظرات الحزن في العيون .. أمي .. أختي .. حماتي .. أدركت أني سأغادر ولن أعود .. حاولت أن أتراجع ولكن هيهات هيهات ..

صوت حنان عبر الجوال تحول من حديث إلى بكاء مكتوم ..

كم عانت من قسوة الغربة .. كم صدمت من قسوة الرجل .. كم وكم وكم ..

تركت صديقتي حنان في ذكرياتها تبكي ..

وسرحت ببصري إلى تلك الأيام وكم كنت أحزن وأنا أرى تلك الصغيرة تمشي وحيدة كل صباح وفي مقلتيها دمعة محبوسة وفي الحلق غصة مخفية ..

أغلقت الجوال .. وقلت :

ـ لا للزواج المبكر .....

وسوم: العدد 670