كيف أشعلت أولى سجائرك

هبة الله الإدلبي

يبلغُ من العمرِ خمسينَ سنة

ضامرَ الكتفينْ , أشيبَ الصدغْ , كهلَ التقاسيمْ , راجفَ الشفةِ بعلةٍ عصبيةٍ ولكنها لمْ تُسقط لُفافة تبغٍ أبداً .

وكأنهُ خارجٌ من مشهدٍ سينمائي , اعتادَ أن يأتي إلى المقهى كلَّ يومٍ عصراً متأنقاً ببدلةٍ قديمةَ الطراز لشخصٍ اعتادَ أن يكون أستاذاً متوسطَ الحال , يجلسُ على ذاتِ الطاولة على الرصيف ولا يغادر المقهى حتى يغادر السماء أخر الضياء .

كان يلتقي ببعض الأصدقاء خلال هذا الوقت , وأحياناً يمرُ بهِ  بعض الطلابِ لإلقاءِ التحيةِ , إلّا أنَّ جُلَّ وقتهِ يُمضيه مستأنِساً بالوحدةِ ولُفافةِ تبغْ .

كانَ يشُدني الطقسُ الذي يؤديه خلال وحدتهِ , يفرشُ على طاوِلتهِ عُلبتا سجائر, علبةَ ثِقابْ , منفضةً يملؤها بأعقابٍ محترقةٍ وفنجانُ قهوةٍ معتلّ , يجلسُ في كرسيهِ مسترخياً مُرجعاً ظهرهُ للخلف واضعاً ذراعيه على مساند الكرسيِّ وقدماهُ ثابتتان على الأرض , وتجوبُ عيناهُ في المدى , كأنّما تبحثانِ , متأملتان في البشر , وكأنّها خيالاتٌ لشخوصٍ من الذاكرة,  توقظهُ من ذاك التأملِ رائحةُ القهوةِ بينَ الفينةِ والأخرى فيرتَشفُ بتثاقلٍ رشفةً منْ فِنجانه ويعودُ لجلستهِ .

كلمّا قدمتُ لهُ فنجانَ القهوةِ كنتُ أتقصّدُ محادثتهُ بِسؤالي عن حالهِ فيهُزُ رأسهُ إيجاباً بالخيرِ ويَلُوحُ بينَ شفتيهِ خيطُ رفيعٌ لابتسامةٍ ساخرة .

مُذ عرفتهُ وهو مثقلٌ الحياةِ , صمتهُ فيهِ سرٌ و دُخان  , يحلو لي مراقبتُهُ وأن أرسمَ حولًهُ أحداثاً وروايات ,ما الذي يجعلهُ يداومُ كلَّ يومٍ على هذا الطقسْ ؟ بماذا يٌفكر ؟ لماذا يُدخنُ بكثرة ؟ وأكثرُ ما يُثيرُ فضولي السرُ الكامنُ وراءَ هذا السكون الذي يُجليه .

 وفي يومٍ ليسَ بمختلفٍ أتَى في موعدهِ , نويتُ أن أجعلهُ يتحدثُ في أيِّ شيءٍ كي أفتحَ باباً لكشفِ غموضهِ ,رتّبتُ في رأسيْ سؤالاً علّه يُعيدُ إليهِ ذِكرياتِ الشقاوةِ والصِبا, وحينَ قدّمتُ لهُ القهوةَ ابْتَدَرتُهُ قائلةً : سيديْ ..!! ما الذي جعلكَ تُشعلُ أوّلَ سيجارةٍ فارضاً عليكَ التدخينَ بهذهِ الشراهة ؟

أطلقَ صرخةً عاليةً لرُبما أو ضحكةً مُستهجنةً ومُقتضَبةً جعلتني أشعرُ بالحرجِ من نفسي  لِطرحي هذا السؤالَ الذي لا يعنيني , ولكنّهُ أعتدلَ في جلستهِ و نظرَ مباشرةً في عينيَّ وقال ليْ : اجلسي .

صوتُهُ الحازمُ جَعَلني أعِي أنَّ سؤالي لمْ يكن سخيفاً بل إنَّ هناكَ قصةً وراءهُ , فاستَعدتُ ثقتي بنفسي وجلستُ بلهفةٍ مترقبةٍ ما سيقولُ كأنِّي على وشكِ أنْ أضعَ يدي على سرٍ كبير .

وكمنْ يستعدُ لإفراجِ مكنوناتِ صدرهِ , انحنى إلى الأمامِ واضعاً ساعديهِ على الطاولة , تناولَ علبةَ السجائرِ بهدوءٍ ,وأخذ منها لفافةً دسّها بينَ شفتيهِ , أشعلها بعودِ ثقابٍ  وأخذَ منها نفساً طويلاً وحينَ نفثهُ اختفتْ وراءَ الدخانِ ملامحهُ .

استندَ بظهرهِ إلى الكرسيِّ و ألقى برأسهِ إلى الوراء, راحَ ينظرُ في السماء وكأنّما يحدِّثُ فيها كيانٍ ما , بصوتٍ قادمٍ من ألفِ زمن شرعَ يسردُ ليْ الحكاية :

كنتُ أبلغُ الخامسةَ والعشرينَ من عمري ويظُنُ المرءُ أنَّه قد نضجَ في هذا العمرِ إلّا أنَّ الحقيقةَ هي أنَّ الإنسانَ لا ينضجُ حتى يُسقى من كأسِ الهوى الموصِبة . كنتُ قد بدأتُ أعملُ مدرساً للُغةِ العربيّةِ وكنتُ فقيرَ الحالِ وكانت هي الأختُ الصغرى لأعزِ أصدقائي.

انتابَتْني السعادةُ عندما صَدَقَ حَدْسِي أنَّ الموضوعَ لابُدَّ مُتعلِقٌ بِقصةِ حُبٍ فتَقَدمتُ بكرسيي إلى الأمامِ وأسندتُ خدي على يدي مشدودةً مبتسمةً .

فأرْدفَ يقول :

كانَ عمرُها ثمانيةَ عشرَ عاماً  لمْ تقعْ عينايَ على فتاةٍ أجملَ منها , كنتُ أٌعطيها دروساً خصوصيةً . كانتْ علاقتي بالعائلةِ حميمةً وكنتُ أتردَدُ إليهم دائِماً وتَتَسِمُ زيارتي لَهُم بطابعِ الألفةِ والمودةِ , كانوا بمثابةِ أهلٍ لي في غربةِ أهلي وأوقاتي العصيبةِ .  اشتعلت معَ الأيامِ جذوةَ الحبِّ في قلبي , خَلَبَ لُبِي حُبها ووقعتُ في غرامِها حتّى الثَّمالة ولو كانَ بيدي الأمرُ لمَا فَعلتُ مُطلقاً  ... مُطلقاً .

انتابني شعورٌ بالانقباضِ عِند هذهِ الكلمةِ ولكنّي لمْ أعلّق كانَ يُهمني أنْ يُتابعَ قِصتهُ .

تَنَهد وقال:

بادلتْني الهوى هيَ أيضاً ولأني كنتٌ محلَّ ثقةِ عائلتها أردتُ للموضوعِ أن يكونَ رسمياً فتقدمتُ لخِطبَتها مِنهم ولكنّي  قوبِلتُ برفضٍ أدبيٍّ و السببُ وضعي المادي السيئ مقارنةً بوضعِهم .

رمَقنِي بنظرةِ منْ يُلقي خُلاصَة تَجرِبةٍ مَريرة :

في هذهِ الحياةِ يقيَّم المرءُ بما يملكُ من مالٍ فقط وتباعُ الفتاةُ للراغبِ الذي يستطيعُ أن يدفعَ أكثر بغضِ النظرِ عن أيّ موضوعٍ أخر .

هزَّ رأسهُ وعادَ يتكلمُ متأمِلاً فِنجانهُ :

احترامي لصديقي وأهلهِ وإحساسي بالامتنانِ تجاهَهُم جَعلاني غيرَ قادرٍ على قطعِ علاقتي بهم رَغم هذا الرفضِ الجائرِ , فأنا أدينُ لهم بالفضلِ في تجاوزي لصعوباتٍ كثيرةٍ في حياتي خصوصاً المادية منها , على الإثر طُلِبَ منّي أن أتوقفَ عن إعطائها الدُروسَ الخُصوصية . عانيتُ من البعدِ كثيراً , حاولتُ تجاوزَ الموضوعِ كثيراً ولم أستطِعْ ذلك أبداً , كنتُ أحاولُ التجلُّد أمامَها ولكنَّها لم تكن تُساعِدني على ذلكَ مُطلقاً,فالحبُ كانَ متملِكاً مِن كِيانها مُسيطراً على عقلِها, فلم تَقوى على تخطِي المعاناة   .

باتَ كِلانا يُعاني تِباريحَ الهوى , راضِخاً لِحُكمِ الأَهلِ على حياتِنا , كُنّا نذوبُ أمامَ أعيُنهم ولكِنَهم فضّلوا أن يقِفوا مُتفرجينَ عسى الوقتُ يَشفي داءَنا .ومرتِ الأيامُ ولم تَكُن تَزيدَنا إلّا سَقَماً وكأَّن الحُبَ نارٌ تُوقدُ بجمرِ النوّى .

صمتَ قليلاً واستندَ بظهرهِ إلى الكرسيِّ والتفتَ إليَّ وهوَ يُطفئُ سِيجارتهُ بِتأَنٍّ وفي عينيهِ نظرةَ من يريدُ ائتِماني على سرٍ , فانحنيتُ نحوهُ باهتمامٍ , فأكمل :

وفي يومٍ كُنتُ في زيارةٍ عِندهُم , وبغفلةٍ عن عيونِ أهلِها هَمَستْ ليْ : تعالَ اليومْ ... الساعة الثانية صباحاً سأكونُ بانتظاركَ وسأفتحُ لكَ البابَ وان لم تأتي فإنّي سأضعُ حداً لهذا الألم اليوم . وفتحتَ يَدها لأجِدَ فيها عُلبة دواءٍ مملوءةٍ بالحُبُوبِ . نَظرتْ في عينيَّ وغادرتْ .خَرجتُ من منزلهم مضطربَ الخواطِرِ والجَوارِحِ قلَّبتُ الموضوعَ كثيراً في رأسي وكدتُ أموتُ رُعباً أن تُنفِذ تهديدها فما كانَ مني إلَّا الرُضوخ والقدوم في الموعدِ المحددِ .

كنتُ خائِفاً من كلِّ شيء , ماذا لو كُشِفنا ؟ سأفقِدُ احترامَ أهلِها وثقةَ أخِيها , ماذا سأقولُ لهُم؟ ماذا سيظنونَ بي  ؟ وماذا ؟ وماذا ؟  ولم يتوقفْ عقلي عن التفكيرِ إلَّا حينَ وصلتُ بابَ المنزلِ , وما إن أَحَسَت بوصُولي حتى فَتَحتْهُ وسَحَبتني إلى الداخلِ وانسلّتْ بي بخفةٍ إلى غُرفتِها وأقفَلت البابَ ورائَنا  وقالتْ : لا تخشى شيئاً الآن. فَتحتُ فمي لأقولَ شيئاً فَأسْكَتتني وقالتْ واضطرابُ الشوقِ يُلعْثِمُ كلماتِها : لقد تعبتْ ,ذبحني رَفضُهُم هذا مِنَ الوريدِ للوريد , لم يَسألْني أحُدهُم رأيي, عُمري يَذبَلُ أمَامَهم ولا يُعيرُ أحدَهم اهتماماً لذلك , فلماذا أرضخُ لأوامِرهِم بعدَ الآن . تمَلَّكَني الجنونُ وأحسستُ فؤادي فارِغاً وأنا محرومةٌ مِنكَ وكلُّ ما أريدهُ في هذه الحياة أن تجمعني بكَ فصارَ لا معنى للوجودِ دونَكَ , لا طعمَ ولا لونَ للحياةِ إنْ لمْ تُشاطِرَني تَفاصِيلَها , أغلقُوا عليَّ الأبوابَ , حرَّجوا عليَّ في رؤيتك فترةَ زيارَتِك وزيارَاتُكَ صارت نادرةً جِداً , عِندما علمتُ بقدومكَ اليوم عزمتُ على أن يكونَ هذا اليومَ نهايةَ عذابي فإمَّا أن توافِقَ على ما سأقولُ وإمَّا أن أُنهي حياتي  .

وقالت بصوتٍ مَمْلوءٍ بالشجون :

تعالَ إليَّ ... في مثلِ هذا الوقتِ من الليلِ وقبلَ طلوعِ الفجرِ ارحل , لا تخشى شيئاً فلن يَشعُرَ بنا أَحدٌ , لا تَخفْ فأنَا ما عُدْتُ أَخافُ أحداً, ولا تَحسِبْ حِسابَ شيءٍ فإنَّ حُبَكَ تملَّك في الحَشا ,  اشتّدَ بِي الوَلَهُ فلا تَدعني أُغالبُ شوقاً ما ينفكُ يَصرعني, جُدْ عليَّ بِوِصَالك  ، ارحَمني مِن هذا العَذاب.

تَوقَفَ هُنَيْهَةً حتى يُسيطرَ على الاضطرابِ الّذي اعتَرَاهُ مِنْ سَيلِ الذكرياتِ المرتجعةِ  , وراحَ يتكلمُ بصوتٍ متهدجٍ :

كانتْ تتحدثُ وكلماتُها تُمزِقُ أحشَائي والخَوفُ مِنْ أن نُكْتَشَفَ يَكادُ يَقطَعُ أنفاسي , ولكِنَّ جَسَارتَها على القيامِ بِما فعلتُه جَعلتْني أستَجمِعُ شجَاعتي وأستَعِدُ لمواجهةِ أيّ شيءٍ لأكونَ معها فقطْ . وصِرنا نلتقي سِراً .

تَنَفَسْتُ الصُعداء , شعرتُ أنِّي كُنتُ أكْتُمُ أنفاسي مِنَ القهر ,ابتسمتُ ابتسامةَ منتصرٍ , كأنّي معنيةٌ ..!

بَل أَنّي حقاً معنيةٌ ...! , معنيةً بافتراقِ المحبينَ قَسْراً باسمِ الأحكامِ الاجتماعية , معنيةً بِمَنْ يُسلبُ حَقُهُ في التعبيرِ عن رغباتِهِ , ويُحرمُ مِن إبداءِ رأيهِ واتخاذِ القراراتِ في حياتهِ بينما يقومُ الآخرونَ بذلكَ بالنيابةِ الإجباريةِ عنهُ , معنيةً بكوني جزءٌ من محيطٍ يقيسُ  بالآلةِ الحاسبةِ كلَّ شيءٍ حتى علاقاتِهِ الاجتماعيةِ , معنيةً بِفَهمِ منطِقٍ لم تُحدث عليهِ حتى ديانةٍ سماويةٍ , معنيةً بِما أٌجبِرَ عليهِ هذانِ القلبانِ كي يعيشا حُبِهما .

قلتُ لهُ : أكمل لي الحكايةَ يا عمْ فإنّي أفْهمُ عُمقَ معاناتكُما .

تَبسّمَ لهذهِ الكلمةِ وشرعَ يصفُ لي لقاءاتِهم . كانتْ عيناهُ تبرقُ خلالَ حديثهِ وصوتُهُ يتهدجُ بالحنينِ , يداهُ تُحدِثَانِ بالشوقِ ووجهُهُ مُشرِقٌ بالذكرى وأنَا مُصغيةٌ وكأنّي اَستمعُ لِحفلةٍ موسيقيةٍ يَحكيها بِكلِ كِيانِهِ:

بِتنا نَلتقي في مواعيدَ محددة , في كلِّ موعدٍ كُنتُ انتظرُ مِنها إشارةً , فأصعَدُ السلالم بخفةٍ حتى بيتِها , وحالمَا أصِلُ البَابَ تَفتَحُ لي وأنْسلُ إلى غُرفتِها وقبلَ طُلوعِ الفَجرِ أخرجُ بهدوءٍ وتُغلقُ البابَ خلفي مودِعةً .

نعم   ,  نعم , حقاً كُنًا نَفعَل , كانتْ أجملَ أوقاتِ حياتي هيَ تلكَ الساعاتُ التي استَرقتُها مِنَ الزمانِ لألتقي بِها , كانَ الخوفُ الّذي نَعيشُه كلَّ الوقتِ يُرهقُ أجسادنا ويكونَ القلقُ والترقبُ سيدَ وصالِنا , ولكن ما تلبثُ حلاوةَ الّلقاء تُنسينا الخوفَ والحذرَ, ويتملّكَنا الهَوى , كُنَّا محرومينِ مِن مُمَارسَةِ الحُبِ علانيّةً فَما العُقُوبَة الأَكبر من ذلك الّتي ستحيقُ بِنَا إن كُشِفنا , أَهيَ الموتْ ..؟ فَيَا أهلاً بالموتِ بعدَ لقاءٍ مع الحبيب .

كانتْ تتوسدُ ذِراعي طولَ الّليل وأنَا أُلملِمُ العِطرَ عن شَعرِها , أَقرأُ لها قصائِدَ الحُبِ الّتي حَفِظتُها أيَّام الدِراسة وتَلتَمِعُ عيناهَا الصافيتان على ضوءِ النجومِ الساهرةِ , كانت تبوحُ لي بعذاباتِ الولهِ وأَعِدُهَا بأنَّ الدُنيا لابُدَّ أنْ تَجمَعَنَا , كُنَّا نُمضي الّليل نَلثِمُ الحِرمَانَ عن شِفاهِنا علَّ الّلثمَ يُطفئُ لَهيبَ الشوقِ في أرواحِنا , كانَ أحدُنا يَحضنُ الآخَرَ بشدةٍ ذلكَ أنَّ الفِراقَ آتٍ بعدَ بضعِ ساعاتٍ من الآن شِئْنا أَم أبَيْنا , وحينَ تذبلُ من النُعاسِ تنامُ في أحضاني كأنّها ملاكٌ فأُمضِّي الساعاتِ الباقيةِ حتى الفَجرِ أتأمَلُ أجفانَها المُذَهَّبَةِ و تقاسِيمَ وجهِهَا وأُداعِبُ خِصلاتِ شَعرِها وتُسكِرُني رائِحتُها وأبْكي , أبْكي  قَدَرَنَا هذا الّذي جَعلَنا لُصُوصَاً نَسرِقُ الحُبَ ونَخُونُ الناسَ الذينَ خَانُونَا .

وسكتْ , أحمرَّ وجهُهُ و تَرقرَتْ في عينيهِ دمعة راحَ يمانعُ انهمارها بقوةٍ حتى ظَنَنْتُ أنَّه تناهي لسمعي تفلّت آهةٍ من بين شفتيهِ . أخرجَ لُفافةَ تبغٍ ووضعها بينَ شفتيهِ بيدٍ ترتجفُ باختلاجِ عواطفهِ و بدموعٍ بللتْ أهدابهُ أشعلها, شعرتُ بانقباضٍ في صدري كلُّ هذا يُنبئُني بأنَّ القادمَ هو أسوءُ ما قد جرى , بعدَ بضعِ سحباتٍ ورشفةٍ من فنجانهِ استعادَ توازنهُ ولكنَّ الحزنَ أرخى بِذيولهِ عليهِ فصارَ مُتثاقلَ الحركاتِ متثاقلَ الكلماتِ وكأنَّها تُحَشْرِجُ في أعماقِهِ وتأبى الانفلاتَ من بينِ شفتيهِ:

ذاتَ موعدٍ أتَيتُها  , وكانَ وجهُهَا ذابِلاً , لمْ يَكُن ذلكَ بالأمرِ الغريبِ ذلكَ أنَّ عذابَ الهوى الذي نحياهُ معاً قد أسْقمَ أجسَادَنا , ضَمَمْتُها بينَ ذراعيَّ , ورُحتُ أُلقي على مسامِعها كُلَّ وعودِ السعادةِ المكتوبةِ لنَا و كانَ ذلكَ في الأيامِ السابقةِ كفيلاً بأنْ يُعيدَ الحيويةَ إلى وجْهِهَا ويَرسُم البَسْمةَ في مُحيَّاها ,  ولكنْ ليسَ اليومْ .

كانتْ محمومةً , يَتَفصّدُ جَبينُها عن قطراتٍ نديةٍ باردةٍ , وجَسدَها يَرتَعِشُ ارتعاشاتٍ خفيفةٍ , وشفتاها ترجفانِ وتقولُ لي بصوتٍ ضعيفٍ ضُمَنِي , فَألصَقتُها بيْ  , قَرَّبْتُها إلىَ صَدري ورحتُ أُدلِّكُ ذِراعَيْهَا وقدَمَيْها علّي أبُثُ الدفءَ في أَوصَالِها وأَلثِمُ رَجْعَ كلماتٍ حزينةٍ عنْ شَفَتَيها وأُهدهِدُ لها علَّهَا تَهْدَأُ .

بعدَ ساعةٍ راحَ جَسدُها يَختَلجُ وصارتْ تَذوِي وتَذْبَلُ وهي تَهذِي بكلماتٍ غيرَ مفهومةٍ وتُناديني كأنَّي سَأُغادِرُها , عَلِمتُ ما تُعاني مَنهُ , شَعرتُ بألمٍ يُوغِرُ صدري ويَحرِقُ أوصَالي وأنَا مَسجونٌ في غُرفَتِها لا أستطيعُ أن أفعلَ لهَا شيئاً كنتُ مكبلَ اليدينِ ولستُ بقادرٍ أن آتي بأيةِ حركةٍ , راحتْ تَأِنُ منَ الألمِ ورُحتُ أَئِنُ مِنَ اللَّوعةِ عاضّاً على نَواجِذِي خِشيةَ أن يَملأَ صُراخي المَدى , قُمتُ وجلستُ في سَريرِها وحَضَنتُ جَسَدَهَا المَوهُونِ بكلَّ جِسمي علّي أَكُونُ حائِلاّ بَينَها وبينَ اقتِرِابِ الموتِ مِنهَا , أَحَطتُها بِذِرَاعي وَوَضَعتُ ذِراعَيْها على كَتِفِي علّي أَمنَعُ انفِلاتَ رُوحِها مِن ضُلُوعِها , رُحتُ أُقَبِلُ أَنَامِلَها وأَبْكِي وأُمَرِغُ وجْهِي في شَعرِها , صَلّيتُ إلى الله بِكلِّ صَلاةٍ أَعرِفُها ورَفعْتُ الدُعاءَ لهُ مُتَشَفِعَاً بُكلِّ نَبِيٍ ووليٍ أن يِأخُذَني ويُبقِيها , حَشْرَجَتْ لساعاتٍ بينَ يديَّ حتَى  تَراخَى عن كَتفي ذِرَاعاهَا ,ثَقُلَ رأسُها , سَكَنَتْ اختلاجَاتُ جَسَدِها , وتوقفَ هديرُ أنفاسِها المَحمومةِ , وجمدت مقلتاها .

تمنيتُ أن يَكُونَ هُدُوئُها استجابةً منَ اللِه لدَعَواتي , رُحتُ أشكرهُ في قَلبي لأُقنِع نَفسِي أنّها نائمةٌ لا أكثرْ , رُحتُ أُزيحُ خصَلَ شعرِها عَن وَجهِهَا وأَمْسَحَ العرقَ عن جَبينِها وأَنْفاسي تَتَسارعُ, صِرتُ أسمعُ نبضَ قلبي بِأُذُني عَيني تَرى وكُلَّ حَواسِي تُدرِكُ ما جَرى إلّا أنَّهُ مازالَ عندي أَملٌ أنّ كُلَّ ما أراهُ كَذِبٌ وأنّهَا نائِمةٌ لا أكثَرْ نائمةٌ كعادَتِها هادئةً هدوءَ الطفلِ لا أكثرْ  .

نادَيتُها لِتُومِئَ لِي فَيرتَاحَ قَلبي ولكِنّها لمْ تُجِبْ , هَزَزْتُ جَسَدَهَا , نادَيتُها مِرارَاً ولكنَّها بَقيتْ ساكنةً هادئةً ويتردَدُ في صَدرِهَا صَدَى صَوتِي دُونَ أن أسمعَ نَبضَاً لِقَلبِها.

لقدْ مَاتَتْ ...

رَفَعتُ رأسِي ,جَحَظَتْ عَينَايَ وَرُحتً أَنظُرُ مِن حَولِي , كُلَّ شَيءٍ هادئٌ , ساكنٌ سكونَ العدمِ , وَجهُهَا شاحِبٌ يَنطِقُ بالوداعِ , ثَغرُها الورديُّ مُزرَقٌ , جَسَدَهَا سَاكِنٌ , والعَتْمُ يَغمُرُ كلَّ شيءٍ , وأنا بَقِيتُ معَ المَوتِ وَحدِي, بَقِيتُ في هذا العَتْمِ أَبكِيهَا بِصَمتٍ .

مِن بينِ يَديَّ تَسرَبَتْ رُوحُهَا  , بِكُلِّ قَسوةٍ انتَزَعَ مَلَكُ الموتٍ الحياةَ من جَسدِها وهُوَ يَرانا مُتَعانِقانِ معاً أَفَلا يُمهِلُنا ساعةً بعدُ فَنَتَوَدَعَ ومِن ثُم يَقبِضُ رُوحَهَا فَتَبقَى صُورَتَها في خَيَالي مَليئَةً بالحياةِ والحبِ .

تَصَدَّعَ قلبي مِن خِضّمِ ما جَرَى , غَابَ خَلفَ أَجفانِها النَائِمَةِ كُلَّ مَعنى لِلوُجُودِ, تَوَقَفَتِ الحياة, تَوَقَفَ الإحساسُ بِكُلِّ شيءٍ .

وقفتُ أمامَ سريرها لا أَدري ماذا أفعل فَرُحتُ أُمدِدُها عليهِ بِكُلِّ أَنَاةٍ , رَتَبتُ قَميصَ نَومِهَا و خصَلَ شَعرِها , مَسحتُ حبّاتِ العرقِ عن جبينِها وأَسنَدتُ رَأسَهَا على الوِسادةِ التي حُرمَتْ مِن أَن تَجمَعَ رَأسي ورَأسَها , غَطيتُ جَسَدَها بِغِطَاءٍ رقيقٍ وجَلَستُ بِجَانِبِ السريرِ أُقَبِّلُ يَدَيهَا .

رُحتُ أَبكي وأًبكي وهي هادئةٌ , ساكنةٌ  , لا تَمسحُ دُموعي كَمَا اعتَادَتْ أَن تَفعَل , ولَمْ تَضُمَنِي لِصَدرِها كَمَا كانَت تَفعَل , لَم تَعِدنِي بِأيامٍ يَختفي فيها الحِرمانُ ,لَم تُقسِم أنَّها سَتَكُونُ لِي مِهمَا طَالَ الزمَانُ ,ذلكَ أنّها لَم تَعُد تَستَطِيعُ الوَفَاءَ بِهذا الوعدِ بعدَ اليومِ أبداً .

وقُبَيلَ طُلًوعِ الفجرِ وقُبيلَ مُغادَرَتي فَتَحتُ نوافِذَ الغُرفةِ لِتَدخُلَ مِنهُ الأرواحُ وتِحمِلُها إلى حيثُ لا أَلَمَ بعدَ اليومِ مُطلقاً ,  قَبَلتُ جَبينَها لِأخِرَ مَرةٍ , لَثَمتُ ثَغرَهَا المُفتِرِ عن بِقايا بَسمةٍ لأخِرِ مرةٍ , وَدَعتُ كُلَّ شيءٍ ولَمْ آخُذ مَعِي شيئاً , يَكفي رُوحي أَن تَتَحَمَلَ ذِكرَى مَا حَصَلَ , عُدتُ القَهْقَرَى ولَم أَدِرْ ظَهرِي لها ,  وأَرشَدتُ نَفسي إلَى خَارِجِ المَنزِلِ وانتَظَرتُ في مَدخَلِ الحَيّ , انتَظَرتُ طويلاً .

استَفَاقَ أَهلُ الحَيّ على عَوِيلِ أُمِها , وبَدَأتُ أَرى حِرَاكَ النّاسِ الغَادي والرَائِحُ  وأصواتُ البُكاءِ والنَحيبِ وسِلالُ الزُهورِ الناعِيَةِ ومَوكِبُ الدفنِ ونَعشِهَا المُسجَّى والحَامِلُونَ لهُ والوُجوهُ الكئيبةُ والباكيةُ , وحدِي في هَذا المَشهدِ جَامِدٌ وكأنِّي أنا المَيتُ لا هِيَ .

مَرَّ مَوكِبُ الدفنِ مِن أمامي , وحينَ اختَفَى عَن نَاظِرِي دَخَلَتُ أَوَّلَ بقاليةٍ واشتَريتُ أَوَّلَ عُلبةً سجائِر وأَشعَلتُ لُفَافَةً وبَدَأتُ أُدخِنُهَا .

شَعَرتُ بِدبيبٍ في أَوصَالي , تَمنيتُ لو تَكُونَ أَنَامِلُ الموتِ تتسربُ في أَضلُعي وظَلَلْتُ أَمشِي وأَمشِي حتى بَلَغتُ المَدفَنَ , كانَ الجميعُ قد غادروا . جَلستُ عِندَ قَبرِها الرَطيبِ أَنفُثُ الدُخَانَ , وعَدتُهُا أنِّي لاحِقٌ بِها قريباً وطلبتُ مِنها أَن تَنتَظِرني , بَقيتُ هُناكُ حَتى حَانَ مَوعِدُنا السرِّيِ ليلاً وجَلَستُ إلى شَاهِدَةِ القَبرِ أَتَلَمُسُ حُرُوفَ اسمِهَا المَطبُوعَةِ , رُحتُ أقرَأُ لهَا قَصَائِدَ الحُبِ التي حَفِظتُها أيَامَ الدِراسَةِ وأتذَكَرُ التِمَاعَ عَينَيهَا , رُحتُ اَذكُرُ بَوحَهَا عَذَاباتِ الفِراقِ ورُحتُ أُردِدُ على قَبرِهَا الوُعُودَ التي طَالمَا أطلَقتُها لَها, رُحتُ أَذكُر احتِضَانَ أَحَدِنَا للأخرِ ومُدامَ ليالِينا , رُحتُ أمسحُ بِيَدي الأمَاكِنَ التي لامَسَ جَسَدُها جَسَدي لأخِرِ مَرةٍ وأَشُمُها وقُبيلَ طُلُوعِ الشمسِ ودَعتُها ... 

مُنذُ خمسٍ وعشرينَ عاماً أشعَلتُ لأَجلِها أوَلَ لُفافةٍ ومِن يومِها وأَنا أَعُبُّ الدُخَانَ عَبَّاً كَي أَفَي بِوَعدِي لَهَا وأَلحَقُ بِها مَازِلتُ انتظر .

توقَفَ عن الكلامِ , غَاصَ وجهُهُ في صَدرِهِ  , وانطَوى على نفسِهِ , وابتَلَعَهُ الصمتُ .

تملّكني إحساسٌ بالخدرِ في أَطرَافي أَثقَلَ جَسَدي عن الحِراكِ , وحِينَ استَفَقتُ مِن ذُهولي رأيتُ المِنفَضَةَ مَلأى بِأَعقَابِ السَجَائِرِ المُحتَرِقَةِ , أَطرَقتُ بِرأسي , وبِسكينَةٍ انْسَحَبت , لَيتَنِي مَا عَرَفتْ ...