المقامة البغدادية

عبد الرحيم صادقي

[email protected]

حكى نبهان بن يقظان قال: أدركتني ليلة من ليالي ذي الحجّة، بعد أن انصرفتُ من عُمرة وحجّة، بأرض البصرة، فألفيتُها في غَمرة. علوجٌ يجوسون خلال الديار، والناس مُكرَهون ما لهم خيار. قد أَسلم لهم الوالي الزّمام، فهُم الخليفةُ ومنهم الإمام. فنزل بي من الهمّ، ما الله به أعلم. وغمَّ يومي، لِما أصاب قومي. فقلتُ: ربِّ اشرح لي صدري، ويسّرْ ليَ أمري! ثم يمَّمْتُ بيتَ الله، أرجو رحمتَه ورضاه. وأدْعوه كشفَ الغَمّاء، ودفعَ البلاء. إذْ لا ملجأ من الله إلا إليه، وما خاب من رفع إليه يَديْه. وليس سواه يُبدِّل الأحوال، مِن حال إلى حال. وبينا أنا متوسّد ذراعي، وعَصايَ متاعي، إذ وقف عليّ حنظلة الأحنف، معتمرا عمامة، عاليَ الهامة، فقال: ما تفعل هنا وليس الوقتُ وقتَ صلاة؟ قلت: جفاني النومُ ولَفظتْني الفلاة. وبي همّ، وكربٌ وغمّ. قال: ومِمَّ همُّك؟ وعلامَ غمُّك؟ قلت: ألفيتُ بغدادَ الرشيد، في بأسٍ شديد. قد أصاب الناسَ نصبٌ وباس، كأنه عامُ الرَّمادة أو طاعون عَمْواس. قال: قد نُقِض الحُكم، وفشا الظلم. فذهبت ريحُ العرب، واستلذّوا الطّرب. قلت: أوَتقطَّعتِ الحِبال، وانكسرتِ النّبال؟ قال: وما عسى يفعلُ أمراء استَهوَتهمُ الصَّهْباء؟ قلت: أفإنِ استبدَّ الأمراء، أفَيخرسُ العلماء؟ قال: لمّا نزل بديارِهم الأمريكان، ولَيْتَ الذي كان ما كان، تولّتهم طائفة، والقلوب واجفة. وأمسك قوم، وأكثروا اللَّوم. وحِيكت الدّسائس، وكثُرت الوساوس. وتفرّق الناس شيعةً وسُنّة، وغدَوْا يَرْجون من العلوج مِنّة. كأنْ ليسوا هُمُ الدّاهيَة، وما أدراك ماهيَه! ثم قدِم خليفةُ بُوش، يَحكمُ خِلافَ قَراقوش. وليت ابنَ ممَاتي أنصفَ حين وصف. قلت: ويلٌ للعرب، مِن شرّ قد اقترب! قد استأصل الصليبُ شأفَتهُم، ومَلَك ديارَهُم.

قال حنظلة: إذا أراد اللهُ إنفاذَ قضائه، أذهبَ من ذوي العقولِ عقولَهم. الناسُ في هوْلٍ مَهول، قد أدْركهم المغول. وبغدادُ تُقذَف بالنّار، وقد أحكمَ التّتار الحصار، والخليفةُ في ليلةٍ لاهية، حتى هَلكتِ الجارية. قُتِلت "عرَفة" وكفَّ الرّقص، وحلَّ الرّفسُ والدَّعص. قال نبهان بن يقظان: ويلَهُم، أمَا يَعتبرون؟ ما لهمْ في طُغيانهم يَعمهون؟ ليُصيبنَّهُم ما أصابَ المستعصِم، وما لقِيَتْ بغدادُ تَلقى العواصِم.