شهود يهوة

كانت تنشر الغسيل على حبال الساحة. نقص عليها ملقطان فأخذت تفتش عن ملاقط سقطت على الأرض. وجذبتها حركة فرفعت رأسها. كانت امرأتان طويلتان ترتدي احداهما سروال جينز مع بلوزة، والأخرى فستانا. وكلتاهما حاسرتان. تبسّمت لهما واقتربت منهما، فتبسمتا لها. بادرتها ذات الفستان وذات الشعر البني، بلهجة أقرب للعربية الفصحى:

-         ممكن خمس دقائق من وقتك؟

تنبهت عندئذ لما تحملانه. حقيبة مكتب لذات الجينز، وأكثر من كتاب لذات الشعر البني. قد تكونان ممن يجمع التبرعات أو يملأن الاستمارات باستطلاعات وأسئلة فارغة. اختصرت الطريق:

-         لا أوافق على الاستمارات ولا أتبرع.

-         سنقدم لك كتابا مجاناً.. فقط خمس دقائق.

إنها لا تحب الكتب ولا تشتريها، ولكن إذا كان مجاناً فلن تخسر شيئاً. إذا لم يكن يستحق، استفادت من الأوراق بحشرها بين الصحون. كانت القطعتان في يدها، فنشرتهما دون ملاقط، بتوسيطهما على الحبل، وأدخلتهما. كان المنزل غير منظم.

-         العذر منكما.. كنت مشغولة.

-         يعطيك العافية.

-         نحن من شهود يهوة، نقوم بجولة للتعرّف على الناس.

وأخذت ذات الشعر البني في اعطاء فكرة عن شهود يهوة. كانت تعرف عنهم نشاطهم في أمريكا وكره الناس لهم لأنهم يلتصقون مثل القرادة. بالأمس فقط كانت تقرأ على الانترنت عن الطوائف والاناجيل المختلفة منها السرية كالانجيل الأسود. مقارنة الأديان أو المناظرات كانت تتابعها بشغف. وانبعثت في رأسها خواطر، فقالت تهدد على أنها تنبه:

-         الناس يخافون من هذه الأشياء. خلفها دائماً مصيبة ما. هل سمعتم بمعاذ؟

كان ابن شيخ اسقطوه، وأوشك على الانفضاح فجعلوه يعلن تنصره ليتسبب بحرج دائم لأبيه ورفاقه. التحييد هي المرحلة الأولى قبل القلب، وتتم بطرق مختلفة، سياسية ووظيفية وثقافية وأكاديمية ونفعية وشخصية. بمجرد التحييد، حتى لو لم ينتقل المحيد إلى المرحلة التالية، يكون قد انتهى. أمّا إذا انقلب، فهو أسوأ من عدو.

أدارت ذات الجينز رأسها محتارة، بينما التقطت الأخرى الإشارة مباشرة:

-         لا، لا، نحن لا نتدخل في السياسة!

-         كيف وصلتم إلى هنا؟

لا بد أنه سمح لهم بالدخول وهم بالتالي أقرّوا الوضع الحالي، الاحتلال، إذا صدقت الكلام.

-         نحن في كل مكان، ولا نتدخل في السياسة. إذا اضطر من معنا لأن يكون في الجيش فهو يرفض الخدمة..

وحاولت أن تشرح لهما أنه ما من حياد. بمجرد القبول بالبقاء أو الخدمة حتى لو تم رفضها والتعرض للسجن، فيه انحياز.

ثم انشغلت بهاجس له علاقة بالانترنت.. أن تهتم بأمور ما وتستعمل الانترنت كمصادر للقراءة، ولا تجهل سهولة مراقبتها، ثم أن يأتيها من لها علاقة بالقراءات، هي المقيمة في أفقر بيت في الحارة، له مغزى.

-         هل ذهبتم إلى الجيران؟

-         بيتك أول بيت ندخله.

كما توقّعت. وانطلقت كلتاهما تتحدثان بتناوب عن شهود يهوة والاختلاف عن الطوائف الأخرى. كانت تتذكّر فقط حديث غير المسلمات اللواتي تعرفهن في المدينة، أنفسهن، عن شهود يهوة.

ذات الجينز متدربة أما ذات الفستان فهي محترفة، وعندما تنطلق تتحدث بلغة عربية سليمة، مع أنها ألمانية الأصل، كما أخبرت عن نفسها.

استماعها كان قلّة عقل، ولكنها لم تعرف كيف توقف الكلام، فاضطرت لتسأل عن نسخ الكتاب المقدس وعن التحديث الدوري ولغة المسيح، وهل هو كلام الله أو المسيح أم سيرة غيرية على لسان تلامذته.. وأين قال المسيح اعبدوني..استعانت بكل ما عرفته من الانترنت لمواجهتهما.

-         لديك فكرة جيدة. هناك اجتماع نناقش فيه هذه الأمور. إنه يوم الاثنين في المركز الثقافي الفرنسي.

شهود يهوة، وألمانية، ومركز ثقافي، وفوق ذلك فرنسي؟؟ هذه شبكة متداخلة.

-         أتعلم بطريقتي.. هل تعرفون أحمد ديدات؟ تابعته طويلا.

ولمعت عين ذات الفستان وهزّت رأسها على شعور بالخطر. ذهبت لتجهز لهما الشاي. لم يبق حديث، واقتصر الكلام مع الشاي والبسكوت على أمور بعيدة عن الدين.

بعد الشاي، قدمت الألمانية ذات الفستان لها، نسخة من الكتاب المقدس قائلة:

-         الكتاب هدية.. نحن مختلفون عن بقية الطوائف، نعيش بحسب الكتاب المقدّس حرفياً.

انتهزت الفرصة وسألتها:

-         ماذا يقول الكتاب المقدس عن شعر المرأة؟؟

كانت كلتاهما حاسرتين! فطأطأتا رأسيهما معا وخرجتا.

لم تصبر بعد ذهابهما كثيراً. اتصلت بأبي معاذ نفسه، وأخبرته عن المركز الثقافي الذي يعقدون الاجتماعات فيه ووقت الاجتماع.

وأحسّت أنها أخطأت كثيراً باستقبالهما، لأن تنصير مسلمة صعب جداً، ناهيك عن أن تكون هي –المجلببة والملتزمة- مستهدفة. لقد كان الهدف قياس ردة فعلها تجاه بعضهم فقط، طالما أن مطالعاتها على الانترنت كانت بتلك الحدة.

وسوم: العدد 688