صخرة الصاخور

محمد محمود عبَّار

على أعتاب الزمن العابس القمطرير, ظل – الصاخور- شامخاً كجبل أشم على صخرة الصمود.. لم تأكل من هامته شهب النيران ولم تكسر قوائمه نبال الخسران.

سنوات مريرة مرت عليه.. ذاق فيها أهله شظف العيش ومرارة ممزوجة بظمأ الطيش, في وطأة الظلمة تتراقص زبالة شمعة من مخلفات حرب باردة وفانوس كاز يعمل حين يحقن فتيله بالسائل المفقود.. نادر الوجود.

وهناك موقد حجري.. نقش سطح لبناته على أيدي الأجداد.. وقوده أعواد جافة لأشجار تغشّاها الحزن على مدى عام بل أعوام, يتحلق حوله الأولاد للدفء وربما تعسف الريح منه الرماد.. يغطي الوجوه الصامتة.. ولها نصيب منه العيون الدامعة.

أما الأم.. لعلها تطهي عليه نزر الطعام عند توفر ما يصنع منه.. كذلك في عبق دخانه يغلى إبريق الشاي الأصفر.

حفل شاي بلا كعك.. تظله غيمة عجاج.

عائلة أبي عبد الله تنتظر قافلة الإغاثة القادمة من الشمال.. على بطون خاوية.

حين اشتم الناس رائحة مؤونة القافلة الميمونة.. خرجوا يتجمعون لاستقبالها.. بل اصطفوا طابوراً طويلاً بانتظار طرود الغذاء وفيهم راعي هذه الأسرة.

شمس الظهيرة قد لسعت قرعته وجف ريقه.. حتى غدا لسانه يلصق في حلقه عندما ينطق بكلمات بائسات.. يائسات:

-        متى.. تصل القافلة.. تأخرت كثيراً؟!

يأتيه رد ممتزج باليأس:

-        كأنها.. لن تأتي.                                                          يردد آخر:

-        ولن تأتي.

هناك بوم تعلق ينعق.. وغراب حلق يزعق..طيور كثيرة غربت وشرقت فزعة على أصوات انفجارات هائلة وأضواء نيران محرقة.. أصابت القافلة المسكينة الحزينة.

حتى الكلاب الشاردة والقطط الآهلة تسمرت مشدوهة تنوء وتموء.

زوابع الغبار وقطع الصفيح وشرائح- الكرتون- المتطايرة في الفضاء حملت إلى الطابور الخبر الصاعق, فتفرق الجمع وولوا الدبر.. بين دموع وعبوس.

بقيت النار المشتعلة تعسعس إلى أن أرخى الليل سدوله وسادت ظلمة سوداء.. لا تجاري سواد قلوب المعتدين على الإغاثة وغذاء البؤساء.. نساء.. أطفال.. عُجز.

لكل حادث حديث.. حديث إفك غليظ, ولكل جريمة كذبة وتبرير:

-        الحدث حدث.. بفعل فاعل من الداخل....أما المحتل المعتدي بريء هكذا رعونة القال والقيل, كذلك الفسفور يلقيه شباب حلب على أهليهم!!يشتثون قلوب الشياب.. يسرقون الألباب!!

المدافعون البسطاء.. لديهم طائرات يلقون منها غاز الخردل السام على مناطقهم!! جرائم ومجازر لا جدال في ارتكبها.. أما المجتمع الدولي السادر فقد ذهب يحقق.. لكنه لم ولن يعود...؟

لا بخفي حُنيْن.. إنما ببسطار يهود.. ثعبان تلمود...

*  *  *

رجل الصاخور له ابنة في المحنة تعلمت تضميد الجراح وحقن عقاقير الدواء.. الفتاة الناشطة لا تكل ولا تمل من عمل تطوعت فيه.. إذا لم تجد الشاش الأبيض تستطيع مزع سترة لحاف أو وجه وسادة.. فتكمل المهمة.. مهمة انتدبت نفسها لها.. بل سخرها رب السماء لتساعد المصابين من الجيران.

المصاب كبير والحزن شديد.. بالرغم من ذلك ومع وطاة الفواجع.. شهداء.. جرحى وجراح نازفة.. أيد مبتورة وأقدام مكسورة, فإن الفتاة اليافعة يغمرها إحساس جارف بالغبطة لما تنجزه من عمل في مجال التمريض الذي صارت على مر الأيام عارفة به, كلما كثرت الإصابات ازدادت هي حيوية وإقداماً.

في نهاية المطاف تم انضمامها للمستشفى الميداني الواقع في حيهم, هو عبارة عن بيت واسع من بيوت الحي تبرع به أحد أهل الخير لهذه الوظيفة الإنسانية الشريفة, يحتوي على بعض الأدوات الطبية التي تساعد العاملين في المهمات الطبية البدائية من إسعافات وما إلى ذلك.

عبد الله الإبن الأكبر في العائلة يقف مرابطاً مع أقرانه على الأبواب الحلبية,خلّف وراءه زوجاً وولدين يقضون أيامهم الرمضائية وسط الأهل في ذات الدار.. الرضيع ينام على ذراع جدته بلا رضاع فقد نضب حليب الأم جاحظت العينين.. والجوع قد خرط في الأمعاء دروباً.

هناك مخبز شبه ميداني أو مخبز طواريء راح يعمل بعد حصوله على عدد من أكياس الدقيق.. تسارع الشيب والولدان إلى الطابور الممتد وسط الشارع المكتظ.

أرغفة معدودة لكل من حضر القسمة فاقتسم نصيبه ومضى مغتبطاً بحمله.

أما من بقي في ساحة الانتظار فكانت قسمته من نوع آخر.

هبط الدوي الهائل فجأة.. تبعته انفجارات.. تطايرت أشلاء واندثرت أجساد تحت الركام.

هرع أبطال الدفاع المدني إلى المكان يرفعون ما استطاعوا من الأنقاض لإنقاذ بعض الأرواح..بينهم ولد لأبي عبد الله في الخمسة عشر ربيعاً من عمره.. غطت وجهه الدماء.

تم نقل المصابين إلى المشفى القريب على كواهل الرجال الأبرار.

أما الذين قضوا فإلى ربهم المرجع والمآل.

لشدما كان المشهد مؤلماً للفتاة اليافعة الناشطة وهي تستقبل أخاً لها في مقتبل العمر.. على تلك الحال, قلبها يتفطر ألماً وهي التي ألفت مثل هذه المناظر على مدار الأيام.

كيف يكون وضع والدتها عندما يسري إلى مسمعها الخبر الثقيل,أمر زاد من لوعتها أضعافاً مضاعفة!!

انسابت الدموع على الوجنات في صمت, الآلام مكنونة في الصدور.. قسمات الوجوه تنبىء عما يعتلج بالباطن.

في وقت قصير عاد الفتى المصاب إلى بيت أهله قبل أن تلتئم الجراح مفرغاً المكان للقادمين الجدد, فرح بقدومه ذووه رغم ما يلفهم من أحزان.

تمسك الرجل بمقبض خشبي بال:

-        الحمد لله على كل حال.

-        الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.  قالتها أم عبد الله مع زفرة من الصدر.

-        نحمد الله.. عاد إلينا إياد سالماً.

-        ياويلي.. ولي علي, مسكين.. وضعه صعب.. الله يصبرنا.

-        وحدّي ربك يا بنت الحلال, المهم أنه بين أيدينا الآن.

-        وعبد الله.. أيضاً لا نراه.. يا حسرتي.

-        استعيني بالله.. قلت لك مائة مرة طولي بالك ولا تجزعي.

-        هه.. ماذا نعمل.. هكذا كتب علينا.. الحالة حولاء يا رجل.

-        هكذا قدرنا.. وقدر بلادنا ليس علينا إلا الصبر والدعاء.

-        صح.. نِعمَ ما قلت. ثم نهضت كأنما فطنت إلى شيء غاب عن البال بداية, وقد بدا عليها قلق شديد وهي تقول:

-        أما الولد الصغير فأين هو؟! لا هو في المشفى ولا رجع إلى البيت!!

*  *  *

ربما سعدت الأسرة قليلاً بداية عودة إياد إليهم,ولكن سرعان ما تنبهت المرأة إلى حفيدها البالغ من العمر ما يقارب الخمس سنوات.. إذ كان برفقة ولدها الفتى اليافع حين ذهب لجلب أرغفة الخبز التي لم تأت, انتفضت الأسرة بأسرها تبحث عن المفقود.. دون جدوى, ما من أحد عاد بخبر يثلج الصدور الجريحة ليدمل شيئاً من جراحها الثخينة.. أو يفرج قليلاً من كمد ركب النفوس.

ووالده عبد الله بعيد عنهم.. هناك عند الثغور متمنطق سلاحه يعالج العلوج.

وإياد لا يدري شيئاً, حيث أخذوه إلى المستشفى أو ما يسمى بالمسشفى وهو مغماً عليه.!

-        رحم الله الفقيد المفقود.. وكل شهداء حيينا.. ورحم الله شهداء بلدنا جميعاً.

عادت الدموع تغرق المقل.. ندب القلوب واسع وشرخ الصدور أوسع.

الناشطون آخذون في إخراج الجثث من أسفل الأنقاض لدفنها في قبور جماعية, أما النار فلن يطفأها الرماد.

أرض المدينة ترتوي بدماء أبنائها, وسماؤها مكفهرة غاضبة من أحقاد الحفنة الشريرة الباغية.

لمّا تكتف المخالب المحلية الوالغة في الدماء بما اقترفته, فجلبت معها قرينات السوء من خارج البلاد.

أقبل المحتلون كلهم.. على هاماتهم رأس الأفعى الروسي الأكثر وحشية الأصفق همجية يجرب أذرع الدمار في الآمنين العزل, ينشب مخالبه القذرة في ربوع العفة والطهارة.. يلقي حممه.. يشهب صواعقه.

توالت النذر للخروج من المنازل, انطلقوا سراعاً.. احتواهم ملجأ يغص بالزوار.. قبو بناية مهشمة لكنها قائمة على قوائم صامدة.

لمّا يمض غير قليل على وقت اللجوء حتى هبطت الصاعقة الارتجاجية في محيط حيّهم.. ارتج كل شيء حتى القلوب التي في الصدور كادت تسقط.. ماج القبو ومن فيه هاج.. تساقطت أجساد فوق بعضها من فظاعة الانفجار.. حتى أن أبا عبد الله سُطح من طوله، لم تحدث اختناقات تؤدي إلى الموت وسط الزحام, لا ريب أنها مذبحة أخرى.

قام عندما استطاع الوقوف بمحاولة صعود درجات السلم المتهاوي حتى غدا عند المدخل.. إذا أخرج يده لم يكد يراها من كثافة العجاج الذي غطى كل شيء وتصاعد يخترق العنان.. يطرق أبواب الفضاء.

مُسحت أبنية من قواعدها واندثر منزلهم في تلك الساعة فأضحوا بلا مأوى...

ليس هذا حال عائلته المنكوبة وحدها.. كثيرون هم الذين ذهبت بألبابهم الصواعق المزلزلة فصاروا على القارعة.. فاقدين غوالي وأعزاء.

*  *  * 

استمرت طغمة البرابرة الجدد بهجماتهم الوحشية( مغولية تترية) بل أدنى وأحط, مترافقة مع الحصار وسياسة التجويع والتركيع,وبما أن السياسة أنواع.. منها سياسة حكيمة وأخرى سياسة لئيمة,قد لُعنت يوماً ما السياسة والسياسيون..إنها السياسة تلك اللئيمة المنحطة المنحدرة إلى الدرك الأسفل.

السياسة الواطئة البشعة ذاتها.. أسقطت حقدها أخيراً على المستشفى المؤقت مثلما انهالت تدميراً بكل أحياء حلب الشرقية.

قضت على الجرحى ومسعفيهم, بما فيهم الفتاة اليافعة الناشطة.

سويعات حزينة أليمة مؤلمة.. أطبقت الأحزان على القلوب المكلومة الجريحة استكمالاً للفواجع التي حلت بعائلة أبي عبد الله.

في ظل الفواجع والكوارث المخيمة على حي الصاخور.. تبين للرجل معنى الصمود والتصدي.. والمقاومة والممانعة.. وحدة.. حرية.. إشتراكية..حرب التحريرالشعبية.

تلك الشعارات الرنانة الزائفة التي ثقّبت آذانهم وأطرمت مسامعهم على مدى ما يقارب الخمسين عاماً من زمن العدم.

هذه هي.. إذن.. قد تحققت في ابتلاء المواطنين بها.. على صدى السنين الطاحنة من الزمن المعتم.. عصر الخاسرين.

مع وقع كل النوائب.. وفداحة المصائب, بقيت صخرة الصاخور صامدة شامخة.

وسوم: العدد 692